حسنا، هناك البعض الذي يقطع الطريق في التفكير الوطني بتحذير قواعد سودانية منتخبة من مغبة إسقاط الإنقاذ لدواع تتصل بنوايا شريرة مكبوتة لدى حملة السلاح، وعجز سياسي لأصحاب التغيير السلمي. هذا البعض، حين يطرح هذا التفكير، لا يطرحه من الزاوية الإستراتيجية والقومية، وإلا لرأى أن ذهاب الإنقاذ هو بالمقابل تخليص لمعاناة شعوب السودان أجمعين، وتخصيصا لمعاناة شعوب تستمطر يوميا بوابل من قاذفات الانتنوف. هذا بخلاف ما سببه غياب السياسة الراشدة والأمن من اقتتال يومي بين القبائل، وتهديد لوحدة الكيان السوداني، وما رافق ذلك من اغتصاب، وتهديد للوجود، وفناء لقرى، إلخ. ولعل كل هذه الموبقات من مسؤولية الحكومة بالدرجة الأولى، سواء بعجزها عن سد منافذ الضيم المسبب للمشاكل، أو بإخفاقها في ابتكار الحلول. وما فائدة الحكومات إن لم تستطع حل القضايا التي تهدد استقرار البلاد ووحدتها، واستمرارها هي نفسها.
والحال هذي، إذا أحس الميرغني والصادق بثقل المذلة التي يعانيها الآباء والأمهات في الحصول على قوت اليوم، وأيضا إذا أحسا بمعنى الموت اليومي الذي تواجهه تخوم دارفور، والنيل الأزرق، وجنوب كردفان، ويفترض أنهما قادة لوطن، لأسرعا بالوقوف مع المتظلمين لصد قنابل هذه الطائرات القبيحة. إنها القنابل غير الذكية التي لا ترحم طفلا، أو شيخا مسنا، أو مستشفى، أو مدرسة، أو زرعا، أو ماشية، إلخ أيضا.
وإن عجز السيدان عن تنمية ذلك الإحساس العظيم بالمسؤولية فلا أظنهما يعجزان دون الحصول على تذكرتي ذهاب وإياب للوصول إلى قادة الحركات في كمبالا حتى يتوصلا معهما لاتفاق حول كيفية التغيير الذي يضمن سلاسة الانتقال من دولة الحزب إلى دولة الجماعة.
ليس ذلك صعبا على السيدين سن ذلك الحراك إن رغبا، إذ هما يجوبان كل دول العالم ما عدا أفريقيا. فهما، أيضا، لا يعجزان عن التفكير في طرح مبادرة للوصول، أقله، لوقف إطلاق النار حتى يتيسر وصول الغذاء، والدواء، والكساء، لمدى عام لمواطنينا الذين يعيشون في وضع بائس لا يعني نخبة الخرطوم المسلمة بتطرف.
ولكن ما اهتدى إليه الصادق والميرغني، ببساطة، هو أنه ما دام أن مذلة الحصول على اللقمة لا تلحق أسرهما، وأن الخراب الحادث في تلك المناطق يهددها فحسب فإنه بالأفضل عدم إسراع الخطى لإزالة النظام ما دام أن أبناء المتظلمين في تلك المناطق لم يثبتوا حسن سير وسلوك لم يحن وقته بعد. وبالتالي لا بد، في جوهر رأي الزعيمين، من مكافأة هؤلاء الذين ترجمهم الانتنوف يوميا بالصبر، حتى وإن دعا الحال إلى تمدد هذا الصبر إلى سنين وسنين، وعلى أن يكافأ أهل المركز، من الجهة الأخرى، بتنمية الغبن على هذا الوضع الكئيب الذي يذل الآباء والأمهات عند كل صباح بينما مال السحت يغرق أهل السلطة الذين هم “حريفون” في مراوغة قوانين شريعتهم، أما المذنب غير الحريف فمصيره القطع من خلاف نكالا، كما يقولون. يا سلام!
طبعا من علامات التذاكي الخارق، أو إلغاء العقل، أن السيدين يفترضان الغباء في من يخاطبونهما بهذه التصريحات الباردة بأن التسوية السلمية هي المثال الأفضل للأزمة السودانية. ولكنهما يدركان تماما أن الحكومة، كطرف، تحبذ الحل العسكري، وأن استخدامها له يفوق استخدام الحركات المسلحة. بل وإن الحكومة تتجاوز الحركات عسكريا مجتمعة، سواء بقدراتها الجوية، أو القصف المدفعي، أو الدعم اللوجستي المحلي، والقاري، والإقليمي. وعسى الناس تدرك أن المؤتمر الوطني قد وظف كل قدرات البلد العسكرية والأمنية لتكون خادمة لجناحه العسكري.
والحل العسكري، كما نعلم، جربه الزعيمان مع الإنقاذ وكذلك جربا الحل السلمي مع الحكومة، وجربا أيضا وضع (اللا حل) فماذا كانت النتيجة في آخر المطاف؟ صار الميرغني جزء من النظام ذاته الذي يحلو له أن يقمع من هو في المركز بذات الأدوات التي يقمع بها من هم في الهامش. أما السيد الصادق فما حسبنا أن التلكؤ في خطواته نحو التغيير، وتصريحاته، إلا بعض أنواع مواهبه السياسية التي ينفقها للجماهير.
إن شيطنة الهامش هي ثقافة أصيلة في المركز، ولها جذورها وفروعها المخضرة. ولعله من هذه الزاوية نشأت الكراهية نحو تنمية بيئته وإنسانه. وهذه الكراهية هي التي أبعدت أبناء الهامش عن مراكز السلطة والثروة تاريخيا وجعلت بنيه وبناته محل شك من حيث ولائهم، ومهنيتهم، وأهليتهم، وصدقهم تجاه المشروع الوطني الذي لم يتفق حوله منذ استقلال السودان.
وفي الواقع أن الزعيمين لا ينطلقان إلا من هذه الثقافة الكارهة للآخر والتي حولت السودان إلى دولة متهافتة إلى قمع مجتمعاتها الطرفية، إذا دعت سلميا إلى ضرورة إنصافها في التوظيف المركزي، والتنمية المحلية، وحكم نفسها ذاتيا. ولهذا غدت (أفضل) المعارك التي خاضها محاربو المؤسسة العسكرية في تاريخها في مواجهة سودانيين، كما أن (أسوأ) معاركها كانت ضدهم كذلك.
وبخلاف الزعيمين هناك أيضا نخبة مقدرة يعمقون الرهبة في ذهن مواطني المركز من التغيرين العسكري والسلمي، ولكنهم، في آخر المطاف، متأثرون بثقافتي الكسل الذهني، والكراهية التي كان ينبغي أن يتجاوزها الإنسانيون منهم بدلا من أن يكونوا أسيرين لها.
بسبب ثقافة الكراهية التي دل عليها هذا التفاوت في تنمية القدرات، وحصر الوظائف، انفصل الجنوب واستراح بعيدا عن المكابرة، والعك الوطني الذي كان طوال فترة ما بعد الاستقلال أشبه بدافوري ميدان عقرب، أو ليق الخرطوم. ومع ذلك فهناك فرصة أخيرة لتجاوز الماضي وخلق التسوية بإسقاط النظام القائم وخلق دولة المواطنة التي تقوم على أنقاض تاريخ من الاستهبال السياسي الذي كان حدود فشله قد تمثل في البكاء على انفصال الجنوب، وتعريض وحدة البلاد إلى الخطر، وغيرها من الإخفاقات السياسية، والتربوية، والاقتصادية، والزراعية، والأكاديمية، إلخ.
لا يوجد في الأوطان الناشئة خطر أكثر من خطر تعميق الكراهية وسط النسيج الاجتماعي لضرورات انتهازية كمثل التي لجأت وما تزال تلجأ إليها الحكومة وبعض النخب. فالصراع في السودان بمثلما يكتسب بعده الأيديولوجي والإثني كذلك يكتسب البعد السياسي والاقتصادي، وكما يتعلق بخيبة الأمل في المثقفين يتعلق بغياب زعامات، أو قادة، حائزين على كاريزما قومية تتيح لنا الاعتراف بأنهم حقا رجال دولة، لا رجال أسرة، أو حزب، أو قبيلة، أو جهة. وكما يرتبط الصراع بالمحور الإقليمي الذي بارت أفكاره يرتبط أيضا بالتدخل الإقليمي نفسه والدولي عبر مراحل التأريخ السوداني، وهكذا يمكن تعداد المقاربات بشأن الأزمة السودانية المستدامة.
إن المشكلة لا تكمن في كل هذه المهددات السياسية والتحديات الوجودي وطريقة نشوء الطبقة السياسية، والاقتصادية، والأيديولوجية المهيمنة فحسب. فواقعنا هو هكذا بكل مدلولاته التاريخية، وإنما تكمن المشكلة في العجز الفكري للنخبة عند التعامل الخلاق مع هذه المهددات. فالمهم هو كيفية التعامل معها بعقلانية وبما يضمن بناء دولة على خلفية واقعها التاريخي المأزوم، والذي تضمن بعض الإيجابيات والكثير من السلبيات. ولعل حالتنا الوجودية ليست بدعا وسط المحيطين الإقليمي، والقاري. فالنخبة المسؤولة لا تندد بمعطيات الواقع المؤسفة فحسب، وإنما تسعى بالواجب والجدية نحو تحييد مؤثراته السالبة على الطاقة المبدعة للإنسان والعمل على معالجتها نظريا، وتطبيقيا.
وعلى هذا الأساس فإن التغيير بالأدوات العسكرية أو السياسية مفروض بواقع ونية الحكومة التي أرادته كذلك، حيث لا مجال لحرية التعبير عن المشاكل في الصحف، كما أن أجهزة الأعلام محاصرة بالرقيب الحكومي والداخلي، ومراكز التنوير وجلسات الندوات محرمة، فضلا عن ذلك فإن المسيرات السلمية محظورة، وأكل العيش بشرف ــ لا بمذلة ــ صار من المستحيلات السبعة بالنسبة لمن هم خارجي الجناح السلمي والعسكري للحزب الحاكم.
أما هناك على ضفاف القرى البعيدة فالمليشيات الحكومية تسرح لتبيد قرى بأكملها وتغتصب فتياتها، ثم تعتقل وتسجن كل من هو في سن الرشد بدافع استباقي، وفي الحضر تسحل أرواح الطلاب وتتعرض الفتيات للتحرش الجنسي داخل المعتقلات. وقبل كل هذا وذاك لا مجال للتقاضي في المحاكم لرد الظلم، إذ أن القضاء صار مسيسا، والحصانات شملت كل أفراد السلطة بينما علماء الدين يحدثونا كل صباح بضرورة إتباع السلف الصالح وللأسف أنهم لا يحسون بحال عباد الله مثل إحساسهم بأهمية وجود الحساء في الوجبة.
صلاح شعيب
[email protected]