بقلم/إحسان عبد العزيز
عندما تتحول الحقوق الى قائمة الأحلام فهذا دليل على أن الدولة على حافة الانهيار..
هذه مقولة ظللت ارددها فى كثير من المناسبات، عندما يتعاظم إحساسنا بالحاجة الى كثير من الحقوق وعلى رأسها الحريات، فنحن جيل قضى العمر فى إنتظار الحرية والاستقرار، جيل نضجت مداركه فى عهد مايو وما لبثنا حتى جاءت الانقاذ لتكمل (الناقصة)، ولكننى لم أجد نفسى مأخوذة بهذه العبارة مثل ذلك اليوم بعد ان قرأت تصريحات والى الخرطوم وتعهداته الجوفاء التى أطلقها فى الهواء الطلق وحملتها بعض الصحف فى عناوينها الرئيسية (أى زول ما لاقى شغل يجينى أنا مباشرة) فى محاولة لدغدغة مشاعر الشباب والعزف على وتيرة تطلعاتهم الى حياة كريمة، ولا يخفى على أحد دوافع ذلك فى هذا الوقت بالذات وقد إمتلأ الفضاء بفضيحة مكتب الوالى وفساد ولاية تعتبر الاهم على مستوى الوطن، خاصة وإنها ولاية المركز الذى يسيطر على عائد انتاج موارد الدولة.. أعجبتنى ردود أفعال شبابنا الواعى الذى صقلته تجارب الحكم الشمولى وتجربة الانقاذ التى سطت على الحكم باكذوبة (أنا الى السجن حبيساً وانت الى القصر رئيساً).. فقد خبر شبابنا أكاذيب هذا النظام فجاءت ردود أفعاله سريعة وجادة ومنظمة، فكانت مبادرة (أنا عاطل/ة) مبادرة تؤكد على ان شبابنا بدرجة من الوعى الذى أهله لان يكون مدركاً تماماً ما له من حقوق وما عليه من واجبات، وان حقوقه لا يمكن أن تصبح يوماً مدعاة للسخرية او كرتاً للابتزاز..
ردود الافعال هذه لم تكن فى حسبان الوالى ومن حوله فاقلقت مضجعهم واربكت حساباتهم ودفعت بمكتب الوالى الى إصدار تصريحاً جاء فيه: ( ان حديث الوالى عن محاربة العطالة أخرج من صياغه الصحيح) وتصريحات أخرى لاحقة تصب فى ذات المعنى فى وقت وجدت فيه المبادرة (أناعطال/ة) استجابة واسعة النطاق خاصة فيما يختص بدعوتها الى كل العاطلين عن العمل الى التجمع امام مكتب الوالى صبيحة الاحد 8/6/2014م اى بعد تصريحات الوالى بثلاثة ايام، وفى صفحة المبادرة على الفيسبوك وصل عدد المدعويين مساء السبت الى 16000 شخص، ووافق 5400 على الحضور (حسب رصد سودان تربيون على موقعها الالكترونى)، وبصرف النظر عن العدد الذى تجمع امام مكتب الوالى صبيحة الاحد إلا أن الحدث فى حد ذاته يعد رداً مناسباً على تصريحات الوالى ونقطة نظام حتى لا يطلق المسئولين الكلام على عواهنه..
وتظل الحقوق هى حقوق وان وضعت فى خانة الاحلام، فحق العمل الذى يكفله الدستور وكل المواثيق الدولية لحقوق الانسان محال أن يصبح حلماً للشباب مهما ارتفعت نسبة البطالة فسيظل النضال مستمراً الى أن تنتزع كل الحقوق..
فبالنظر الى نسبة البطالة نجد السودان احتل المرتبة الخامسة بين الدول العربية فى معدل البطالة حسب دراسة نشرتها اللجنة الاقتصادية والاجتماعية للامم المتحدة فى مارس من العام الماضى، كما كشف تقرير رسمى صدر عن وزارة تنمية الموارد البشرية والعمل فى 28/اغسطس 2013م عن أن ارتفاع نسبة البطالة فى السودان من 16,4% عام 1990م الى 18,8% للذكور و32,5% للاناث فى العام 2013م..
فاذا نظرنا الى اسباب ارتفاع نسبة البطالة نجدها ترجع الى الظروف السياسية والاقتصادية التى تعيشها البلاد بفعل السياسات الخاطئة والفساد وغيرها من الاسباب التى أثرت سلباً على كل مناحى الحياة، وعلى رأسها تصفية القطاع العام والمؤسسات والمشاريع الهامة التى كانت تعتمد عليها الدولة فى العائد الانتاجى كهيئة السكة الحديد وهيئة الموانى البحرية ومشروع الجزيرة وغيرها، ضف الى ذلك تصفية الخدمة المدنية ومؤسسات الدولة الحيوية من الكوادر المؤهلة والخبرات بما سمىّ بـــ (قانون الصالح العام) و(فائض العمالة) وغيرها من المسميات التى وضعت كواجهة لتطبيق سياسة (التمكين) وجعل الانتماء الى المؤتمر الوطنى هو تأشيرة دخول الى مؤسسات الدولة والتوظيف بها دون قيد او شرط، وهذا خلق لدينا نوعين من البطالة — بطالة إجبارية فرضت على حملة المؤهلات والخبرات والخريجين والقادرين على العمل وهى ما يعرفها الاقتصاديون بــ (البطالة الغير طوعية)
(Involuntary unemployment )
أما النوع الاخر فهى البطالة التى عرفت بــ (البطالة المقنعة) _____
(Disguised unemployment )
والتى تحدث نتيجة لتكدس العاملين فى قطاع ما دون مهام محددة ودون وصف وظيفى محدد ودون معايير للكفاءة او الخبرة، وهذا ما حدث بالضبط عند تطبيق سياسة التمكين التى اتبعها المؤتمر الوطنى، فاستبدلت الخبرات والكفاءات وحلّ مكانها المنتمين للحزب الحاكم وامتلأت دواوين الحكومة والوزرات بموظفين وعاملين عاطلين عن العمل يقضون معظم اوقات يومهم فى قراءة الصحف وتناول المكيفات، فتدنى الانتاج وتدهور الاقتصاد بشكل كبير..
وولاية الخرطوم كنموذج نجدها الاكثر إنتشاراً لمظاهر العطالة فيها، فبالاضافة للاسباب التى تحدثنا عنها لعبت الحروب دوراً كبيراً فى ارتفاع نسبة العطالة بعد أن فشلت الدولة فى تحقيق السلام والاستقرار وتمادت فى حربها على الهامش مما ادى الى ارتفاع نسبة النزوح من مناطق الحرب الى المدن وكانت لولاية الخرطوم النصيب الاكبر من ذلك النزوح، ضف الى الحروب والنزاعات تردى الخدمات فى المناطق المهمشة والريف وتمركز الصناعات فى الولاية كأسباب اخرى أدت الى النزوح والى زيادة عدد السكان بولاية الخرطوم..
فالقضية أكبر من أن توضع فى سلة الوعود الخاوية، وان يلوح بكرت العمل لمد حبل الانتظار، فشبابنا أصبح واعياً أكثر مما ينبغى وخبر كل أساليب هذا النظام فى المراوغة وكسب الوقت وصرف الانظار عن القضايا الرئيسية.. فتجمع الاحد أمام مكتب الوالى كان فعلاً إيجابياً ردّ الصاع صاعين وقدم الشباب فيه درساً عظيماً لكل من تسول له نفسه أن يستخف بهذا الشعب الصابر او ان يسخر بحقوقه.. فالحقوق محال أن تصبح كرتاً للابتزاز، واحلام الشباب فى المستقبل الواعد محال ان تصبح أضغاث أحلام..
فالتحية لشبابنا والتحية لمبادرة (انا عاطل/ة)، والتحية اولاً وأخيراً للشعب السودانى العظيم..
فعفواً الخضر.. إنها حقوق لا أضغاث أحلام