بقلم : عثمان نواي
لقد تمكن الاسلاميون فى السودان من السيطرة على البلاد لاكثر من ربع قرن من الزمان, عبر مؤامرة محكمة تداخلت فيها خطوط متشابكة من المصالح والعلاقات الاقليمية والدولية, ناهيك عن الارضية الخصبة لنمو هذا النبت الشيطانى , المسمى بالحركات الاسلامية فى بلد مثل السودان. فحالة التشوه الخلقى التى تعانى منها الدولة السودانية منذ مولدها, قدمت السودان وشعوبه على طبق من ذهب, ليستمتع الاسلاميين بتطبيق اوهامهم ومشاريعهم الحضارية فيه. فما نجح فى تحقيقه الترابى وجماعته فى السودان, فشلت الحركة الاسلامية الام وهى جماعة الاخوان المسلمين فى تحقيقه فى دولة مصر لاكثر من 80 عاما, وحينما نجحت فى الوصول الى السلطة فى النهاية , انهارت فى اقل من عام واحد.
ان مؤامرة الاخوان المسلمين السودانيين, وتلاعبهم بعدد من الخيوط فى الوضع السودانى المضطرب, نسجت حول فكرة اساسية, وهى ان القوى السودانية الوطنية , من الضعف بمكان , لتشكيل رؤية وطنية قومية سودانية واضحة ومستشرفة للمستقبل. حيث كانت النخب السياسية تعانى من حالة من الفصام والتشويش فى قدرتها على طرح ما تريد ان يكون عليه شكل السودان بعد الاستقلال. وقد فهم الاسلاميون هذه الثغرة منذ البداية, منذ الستينات, عند نشوء الحركة. ولكن قدرتهم على التحرك بحرية, بدأت فى السبيعينيات ومع فوضى الديكتاتور المضطرب نميرى. ومع نمو دول الخليج وقدرتها على دعم كل من يضع لافتة اسلامى امامه. وبهذه الرؤية تمكن الاسلاميون من السيطرة واعادة توجيه نظام نميرى- الغارق فى التيه الفكرى والمنعدم الرؤية, نحو الفكر الاسلاموى. ومن هناك بدات الكارثة. حيث نجح الاسلاميون فى طرح رؤاهم بشكل معلن للدولة الاسلامية فى السودان, على غرار ايران بعد الثورة.
ولكن اضطراب رؤية النخب والحكام ليس هو السبب الوحيد, وانما الاهم. ولكن فى القاعدة يكمن الاشكال الجوهرى, وهى معضلة ادارة التنوع الهائل للسودان. اضافة الى العبء التاريخى من العلاقات الغير متوازنة بين الاثنيات والمناطق الجغرافية المختلفة فى السودان. الامر الذى انعكس فى تمثيل ما يسمى بالهامش اصطلاحا, فى تقرير اى من خيارات الدولة السودانية الناشئة, مما ادى فى النهاية الى اشتعال اسوأ الحروب الاهلية فى القارة, من اجل اسماع النخب الحاكمة صوت الاقاليم المستبعدة على المستوى السياسى والفكرى والثقافى والمقتطعة على المستوى الذهنى والشعورى من الخارطة السودانية. فالتوزيع الغير عادل للسلطة والثروة فى البلاد كان تعبيرا عن التغييب الكامل لوجود السكان فى مناطق السودان المهمشة, والذين هم ايضا , ليسوا بعرب ولا مسلمين فى اغلبيتهم. وفى ظل هذه الفوضى المتعلقة بالمولد والنشأة لهذه الارض الشاسعة المسماة السودان, وجدت فيروسات الحركة الاسلامية الارض الخصبة لنموها.
ففى الدول المستقرة , والراسخة الرؤية الوطنية والقومية مثل مصر وتونس, كان من الصعب على الاسلاميين التحكم فى السلطة. ولكن عندما ترى الخارطة الدولية لسيطرة الاسلاميين , فانها تبدأ من الصومال وافغانستان, وباكستان فى اقاليمها القريبة من افغانستان, ثم بعض الوجود فى المغرب بعد الربيع العربى, الذى افضى الى حكومة اسلاميين, لكن دون سلطات تشريعية تتمكن من تغيير هوية الدولة. ثم تاتى دول مثل تركيا وماليزيا, وهى دول لم يكن القادة الاسلاميين فيها, سوى رجال ذوى رؤى اقتصادية وطنية خاصة ببلادهم, ونابعة ايضا من طبيعة دول مستقرة نسبيا وفى المراتب العليا للدول النامية بل والمتوسطة النمو, ومرتبطة بعلاقات دولية تفرض عليها قدر عالى من الاعتدال السياسى والممارسة الديمقراطية لتحقيق النمو الاقتصادى المعتمد على الغرب. ولذا فان سيطرة الاسلاميين الكاملة على المستوى الفكرى والسياسى والاقتصادى لا تتحقق الا فى الدول المفتتة داخليا على مستوى الوجدان الوطنى والتى لم تتشكل فيها ملامح الدولة المستقلة التى تخدم مواطنيها بحيادية وعدالة.
وبالتالى فان الاسلاميين تمكنوا خلال فترة حكم نميرى والديمقراطية الثالثة وبواسطة اموال الخليج واستغلال القطبية السياسية الدولية بين الشيوعية والراسمالية, تمكنوا من التغلل الى مفاصل الدولة السودانية المنهارة اساسا. فسيطروا على الاقتصاد والتعليم, مما مكنهم من الوصول سريعا الى الجيش والشرطة وبقية مكونات الدولة المستقلة وتوجيهها, وفى الكثير من الاحيان شراءها لصالحهم خلال الثلاثة عقود الماضية. الامر الذى جعل انقلاب 1989 ناجحا وقادرا على الصمود فى وجه تحديات مختلفة. وبالتالى فان جذور النظام الحالى متغلغة فى الدولة السودانية على كافة المستويات وفى جميع المؤسسات. الامر الذى يجعل المطالبة باسقاط النظام غير كافية بل يجب اقتلاعه من جذوره. ولكن لا يمكن ان يتحقق ذلك فى ظل غياب تحالف قوى او مؤامرة مضادة, تشترك فيها عناصر من كل هذه الفئات داخل الدولة على مستوى المؤسسات الاقتصادية والسياسية والعسكرية وغيرها, لتشكل حماية للمواطن السودانى من من مؤامرة الاسلاميين التى تكشفت خلال الربع قرن الماضى والتى ادت فى النهاية الى تقسيم السودان وتسعى لتقسيم ما تبقى منه, فى محاولة لتحقيق اوهام الدولة الاسلامية , ولو على جثث الملايين من البشر , الذين ابادهم نظام الاسلاميين فى السودان خلال العقدين ونصف الماضيين.
ان طبيعة الفكر الاقصائى والثيولوجى للحركة الاسلامية, يجعل من حكمها للسودان مرضا فتاكا يجب التخلص منه. فهذا الفكر يلغى وجود الاخر الغير عربى او مسلم, او على الاقل الذى يرغب فى العيش فى الوقت الحاضر وليس فى القرون الوسطى, مما ادى فى النهاية وبشكل فعلى لان يحاول النظام ابادة شعوب باكملها فى سبيل التمكين لاوهامه الثيولوجية. ولان السودان اصلا هو رجل افريقيا المريض كما يصفه البعض, فان جهاز مناعته الضعيف ادى الى تحكم واستشراء فيروس الحركة الاسلامية فى كل اوصال البلاد, مما ادى فى النهاية الى بتر اعضاء من هذا الجسد, وللاسف فان بقية الاعضاء فى الطريق. مع لا مبالاة هؤلاء المتوهمين لدولة الخلافة الاسلامية, رغم محاولاتهم للتلبس بالعصرية والحديث عن الديمقراطية, حيث انهم يلعبون فقط بمصطلحات العالم الحديث, لكى يكملوا خططهم ويسيطروا على الحكم. وما تهافت الاسلاميين على بعضهم من امثال الترابى وغازى وعلى حوار المؤتمر الوطنى الا هى مؤامرة اخرى , للاحتفاظ بما تبقى من هذا الجسد المريض للسودان, لان الفيروسات القاتلة لا تستطيع العيش الا فى الاجساد الضعيفة.
ولكن المثير للاستفزاز هو التساؤل حول هذا السودان وشعبه اين هم؟ وكيف يستطيعون التعايش مع هذا الداء العضال؟ هل تمكن من كل جزء منهم حتى اصبحوا ناقلين للفايروس , ام هم من الياس من العلاج بمكان, لدرجة انهم لا يريدون المقاومة, ام ان قواهم قد انهكت وتمددوا على الفراش فى انتظار الموت الرحيم؟. ان ما يجرى فى البلاد الان ينبىء بالفناء المحدق بهذا البلد فى وقت قريب للغاية. ولا منجاة من هذا المصير الا بمؤامرة مترابطة وقوية بين كل القوى الحية والوطنية والتى بقى لديها شىء من قوة سواءا كانت قوة السلاح او القوة السياسية والفكرية والاقتصادية, لاعادة السيطرة على السودان وارجاعه لايدى السودانيين الوطنيين, الذين لا تشوشهم اى ايديولجيات او اوهام تاريخية, ولا تسيطر عليهم تنظيمات دولية. فعلى السودانيين الوطنيين فى الجيش والشرطة ومجال الاعمال والمهنيين والعمال والطلبة والسياسيين المسلحين والمدنيين, حزم امرهم والاختيار بين التاَمر على الاسلاميين واقتلاعهم من السودان او حفر قبور جماعية استعدادا لدفن ما تبقى من هذا الوطن. فمؤامرة الاسلاميين على السودان لا يمكن افشالها الا عبر, تاَمر كل السودانيين عليهم, للانقاذ الحقيقى لما تبقى من هذه البلاد من هذا الداء الفتاك.
ونواصل ..
[email protected]