حميدتي يطلق رصاصة الرحمة على القوات المسلحة
صلاح شعيب
المعروف أن الجيوش تكون لأداء أمرين مهمين. هما إظهار الهيبة الدفاعية للدولة، ولأداء مهمات قتالية في حال تعرض البلاد لغزو خارجي، أو تحرك عسكري داخلي ضد سيادة قانونها. وإذا كان هذان الأمران المهمان لم يتوفرا في أداء القوات المسلحة لحماية أراضي البلاد الآن، ولإيقاف ما تسميه التمرد فما الذي يمنع القول بانتهاء عصر القوات المسلحة ما دام أن قادة الجنجويد يتباهون في قلب الخرطوم بأنهم أتوا ليحموا البلاد حتى ينام سكان العاصمة هانئين وآمنين؟.
إذن في ظل وجود الجنجويد ما هي قيمة الرتب الصغرى، والعليا، في الجيش، والميزانية الهائلة للدفاع التي تبلغ ثمانين من المئة من ميزانية الدولة؟. وما هو دور الحاميات العسكرية المنتشرة على مستوى القطر، وهل انتفى دور الكلية الحربية التي خرجت العديد من طلبتها لتتعلم وتستلهم فنون الدفاع والقتال؟
وإذا كان حميدتي الذي لم يتأهل، ممنهجا، ومنضبطا، من خلال مراكز التجنيد، أو الكلية، هو الذي يضع الخطط العسكرية الآن لمواجهة الحركات المسلحة، ومظاهرات الخرطوم، فمن يدري بمستقبل دوره؟. وعلى هذا الأساس من من الإنقاذيين الذي يرفض أن توكل إلى حميدتي مهمة تحرير حلايب في قابل الأيام، ما دام أن خبراته القيادية القتالية تتجاوز خبرات مهندسي التخطيط العسكري في المؤسسة الدفاعية الأولى؟
وبناء على ما قاله قيادي إنقاذي بأن فسادا ضيع مليارين من الدولارات لإنشاء مبان تحت رعاية وزير الدفاع لصالح المؤسسة العسكرية، إذن فما هو دور أسلحة المدرعات، والطيران، والمدفعية، والأكاديمية العسكرية التي تضم مبان عصرية فخمة، ومهيأة بأحدث سبل التكنلوجيا بشكل أفضل من مجلس الوزراء، ومبنى البرلمان، وكذلك جامعة الخرطوم، ومستشفى أمدرمان، ومباني التلفزيون والاذاعة، وميناء بورتسودان؟
إن قيام ما سميت قوات الدعم السريع بإحلال محل القوات المسلحة يثبت عدة حقائق لا تتعلق بطبيعة الأنظمة الدفاعية للنظام القائم فحسب، وإنما أيضا بالتحولات التاريخية التي أثرت في بنية الدولة المركزية حتى صارت متخبطة في أمر التعامل مع التحديات السياسية، والعسكرية، والدبلوماسية، والأمنية، والاقتصادية. ولعل كل هذه التحديات انفرزت من خلال تاريخ الصراع القديم المتجدد بين قادة ومؤيدي الأنظمة الديكتاتورية ورموز وقواعد مكونات البلاد الرافضة للاستبداد، وادواته التي تتنوع لتقضي على أي محاولات ديموقراطية إصلاحية.
إن ما يجري في البلاد نتيجة حتمية للنصب، والاحتيال، الذي مارسته الحركة الإسلامية مجتمعة، أو مفترقة في أدلجة المنتمين للقوات المسلحة بشكل لم يسبق له مثيل طوال فترات العهود التي سبقت الإنقاذ. والذين سيأتون لدراسة تاريخ القوات المسلحة لا بد أنهم سيجدون أن وظيفتها تكاملت مع القمع الداخلي مع غضها النظر عن تغولات دول الجوار على أراضي البلاد في كل اتجاهاتها. فهي كانت مثل حصان ديربي الفروسية، والذي يمتطيه عدد من الجوكية حتى يفقد صلاحيته. فكل من يأتي للحكم لا بد أن يشكل هذه الخدمة القومية بالصورة التي يريد دون اتفاق مع مكونات القطر المجتمعية. والغريب الواضح في قانونها هو أن الذي يستطيع النجاح في الانقلاب يبقى قادرا على امتطائها، ويمنه بعدها أن يقذف بخبراتها إلى الشاراع. أما الذي يفشلون في السيطرة عليها بليل فهو ذات القانون الذي يعرضهم للإعدام إن لم يكن الحبس، أو التجريد، أو فقدان الحقوق. وهذا هو عصب التناقض في دورها على مدار التاريخ السوداني.
طبعا لم تكن القوات المسلحة جزيرة معزولة عن المجتمع ككل. ولا يمكن تحميل ضباطها، وجنودها، وحدهم، مسؤولية فشلها في أداء دورها المفترض فيه التكامل مع أدوار مؤسسات تشريعية، وتنفيذية، وقضائية، وتحرير المساحات التي تغولت عليها دول الجوار. فمعظم القوى السياسية تتحمل مسؤولية هذا الفشل الذي وصلت إليه القوات المسلحة ما دعا حميدتي لأن يكون فرس الرهان الأول في حماية الخرطوم بما فيها من قيادة عامة، وأفرعها الممتدة. فهذه القوى السياسية قد سربت كوادرها إلى هذا الجسم القومي، وتكونت خلايا أيديولوجية كان هدفها الأساس تدبير الانقلاب للاستفراد بالسلطة، والتخلص من زملائهم العسكريين الأكفاء أنفسهم.
ومع وصول الترابي، وتلاميذه، إلى السلطة تم استخدام القوات المسلحة بأقصى درجات المكر والانتهاز السياسيين لحماية التمكين الكامل للإسلامين في مفاصل المجتمع. وهذا التمكين برغم فشله الواضح في جعل مناحي الحياة العامة مستقرة إلا أنه ما يزال يلعب دورا محوريا ناجحا في إضعاف الدور المتوقع للقوات المسلحة حين يستشعر افرادها المغامرون مخاطر ضياع الدولة. ولعل السبب في فشل الانقلابات العسكرية ضد الإنقاذ يعود إلى إفراغها من كل الأفراد المشتبه فيهم تقدم الصفوف للانقلاب على السلطة. وحين صارت هذه القوات النظامية مفتقرة إلى القومية، روحا وتكوينا، في راهنها، والخبرات القتالية، وتحول صغار وكبار المنتسبين إليها من الضباط إلى مؤدلجين لا يجيدون التخطيط العسكري، والدخول في غمار المعارك، استعانت السلطة بمليشيات تعوض النزيف الحاد في الخبرات التخطيطية، والقتالية. الشئ الآخر هو أن معظم الذين اخترقوا صفوف القوات المسلحة من الإسلاميين هم من الضباط، وليس من المشاة المقاتلين، فلذلك ظلت هناك فجوة في عدد المقاتلين الإسلاميين من المشاة. وكما نعلم عجز مشاة الدفاع الشعبي في أن يكونوا بديلا لمشاة القوات المسلحة المحترفين. ذلك بعد أن فشلت نداءات تحفيز للانضمام إلى هذه القوات التي ورث الجنجويد دورها، وتفرغ المجاهدون للبحث عن حياة الرغد بعد أن شاهدوا القادة الكبار يثنون، ويثلثون، ويربعون في الزيجات. بل ويتبارون في حيازة الأراضي، وامتلاك الشركات، واختلاس المال العام والخاص.
إن هذه الوظيفة التي تقوم بها قوات الجنجويدي حميدتي تعد إلحاقا لدور مليشيات كثيرة فشلت في أن تحل محل القوات المسلحة بكفاءة لتردع الحركات، والمظاهرات المنددة بالحكومة في وسط البلاد. ولكن مع بروز التحديات الصعبة للنظام شاهدنا حميدتي يطلق رصاصة الرحمة على دور القوات المسلحة التي فشلت بمدفعياتها، ومشاتها، ومدرعاتها، وطيرانها في تأمين ربوع البلاد بعد إنفصال الجنوب. ولقد لاحظنا أن دور هذه المليشيات كان مقصورا على دعم القوات المسلحة لمنازلة، وملاحقة، الحركات بكل ذلك التجاوز لقوانين الحرب. ولكن الجديد في الأمر هو تمدد هذا الدور ليشمل العاصمة في ظل وجود كل رئاسات الوحدات العسكرية. وذلك يعني إما غياب ثقة النظام في الدور القتالي لأفراد هذه الوحدات التي لم تنجح في مواجهة الحركات بشكل يستأصل قوتها، ويشتت شملها، أو لقناعة السلطويين بأن عمل هذه القوات لا يبقى محدودا في حمايتهم، وإنما سيمتد في حال فقدانهم السلطة كما ألمح غندور.
أيا كانت التوقعات، والاستراتيجيات، والمعلومات، التي بنت عليها السلطة القائمة في جعل الخرطوم ميدانيا جديدا لحرب قوات الجنجويد تكون مؤسسة القوات المسلحة قد وصلت إلى آخر مراحل ضمورها تحت ضغط الاستنزاف الذي مارسه نحوها الإسلام السياسي من جهة، والحركات المسلحة من الجهة الأخرى، لم يبق أمام كل المنتسبين إلى القوات المسلحة إلا الاعتماد على حميدتي للحفاظ على استمرار كشف مرتباتهم.