جدل سياسي وأهازيج شعرية في «جمهورية ميدان التحرير»
أحد المحتجين: لا أعلم إن كنا سنفوز.. فهم لديهم السلطة لكننا لسنا ضعفاء
القاهرة: أنتوني شديد *
بعد دقائق قليلة بعد منتصف الليل يوم الأحد غسلت الأمطار شوارع القاهرة الناعسة وعبر أحمد عبد المنعم مع أصدقائه الكوبري الذي يؤدي إلى عاصمة موازية في ميدان التحرير الذي أصبح فكرة بقدر ما هو مكان. وقال: «رؤيتي تمتد إلى ما هو أبعد مما يصل إليه نظري». تعد الثورة المصرية مزيجا من تنافس بين إنذارات نهائية وفوضى وثورة وحرية وخضوع. لكن تصبح منطقة ميدان التحرير أكثر هدوءا خلال الليل، حيث تفسح هتافات الثورة مجالا لإلقاء الشعر والسياسة.
مقصف يقدم شطائر جبن، أو متطوعون يقدمون أكواب شاي لمن يقفون على الحواجز، أو صيدليات ممتلئة عن آخرها بالبيتادين، أو فنانون طبقوا ما يؤمنون به على أرض الواقع، فمدينة القاهرة الخاصة بهم تبدأ عندما تنام المدينة. الجميع مرهق، لكن لا يبدو أن أحدا منهم ينوي التفريط في لحظة يلونها التحدي. أوضح عبد المنعم وهو يمر بجانب نقطة تفتيش يتبول فيها جندي على دبابته: «الكل مستيقظ هنا. قد أكون منهكا، لكن عندما يبزغ نور النهار يمكنني أن أستنشق عبير الحرية. ما أراه هنا لم أره في حياتي أبدا» أو كما هو مكتوب على إحدى الدبابات: «الثورة في التحرير لا نوم في السرير».
يفد نحو مليون شخص إلى أكبر المدن في العالم العربي التي يبلغ عدد السكان بها 18 مليون. وتتردد أبواق السيارات المتفرقة في ساعة الذروة التي تمتد طوال اليوم لا يطغي عليها سوى جلبة أكثر مدن العالم ازدحاما. وطالما أثار الانتقاد الخاص بالمعاني التي تمثلها المدينة الشعور بالحنين إلى ملامح لعاصمة أقدم وأكثر نقاء حفظتها أفلام الأبيض والأسود المصرية. التحرير يمثل الاشتياق والإبداع.
ومع حلول الظلام يتجول الباعة الجائلون في الشوارع الآمنة بجانب العشاق متشابكي الأيدي ورجال ما زالت الضمادات تلتف حول أجزاء من جسدهم من جراء القتال مع مؤيدي الحكومة الذين حاولوا الاستيلاء على الميدان. كان أحدهم يصيح قائلا: «كوب شاي بجنيه واحد»، بينما يوزع متطوعون خبزا ويصيح أحمد خاطر ردا على تردد الناس في أخذه بدافع الأدب قائلا: «أرجوك خذ رغيف. لقد جئنا من أجلك».
في الشارع أحضر رجال كراسيهم على الرصيف المبلل لمشاهدة عرض للشعر العامي يلقيه رجل قعيد على كرسي مدولب وخطابات لمتظاهر يلف نفسه بعلم مصر وشعارات يقودها محمد محمود البالغ من العمر 16 عاما يتمتع بالفصاحة، حيث قال وهو يقف تحت المطر مشيرا إلى حسني مبارك: «الله راعي هذه الأزمة» كذلك صاح بهتاف يتسم بالقافية «يا مبارك نحن الشعب في الميدان». وأعقب ذلك خطاب انتهى بعبارة: «أخيرا القرار أصبح بأيدينا». وقالت عزة خليل، أخصائية السرطان التي عملت على مدار الساعة في صيدلية أقيمت على مقربة من صف من الدبابات: «بعد أن نتخلص منه سننظف الميدان ونعتز به، حيث سيكون رمزا لشيء جديد». وتسير عزة حاملة صندوقا به ضمادات وسوائل ومطهرات وأجهزة استنشاق ومحاليل وريدية وأنسولين وهو ما شبهته بـ«صيدلية» تمولها تبرعات ويديرها دكتور خليل وهو مسلم علماني وزميلة محجبة ومسيحي شاب. ينام الرجال الذين أصيبوا من جراء المواجهات تحت مظلة بالقماش بجوار الخيام التي ينام بها الرجال. لم يغادر دكتور خليل الميدان إلا لبضع ساعات خلال يومين. وأضافت عزة: «البعض يغادر الميدان ثم يعود سريعا لأن الجو في الخارج قبيح للغاية».
أطلق المحتجون على هذا الأسبوع «أسبوع الصمود» وهو يتوفر هنا بكثرة. لكن يوجد نوع من الحصار أيضا، حيث يخشى البعض من تحول التفاؤل إلى الاستسلام للواقع المر. ينتج عن النيران القريبة مزيد من الدخان من أكثر من حريق، حيث دخل الناس في جدال حول ما إذا كان على مبارك الرحيل اليوم أم اليوم الذي يليه. قد لا يمثل أي من الاثنين الإجابة الصحيحة، حيث بدأت الحكومة تتماسك في مواجهة انتفاضة دخلت يومها الثالث عشر. قال محمد علي، أحد المحتجين: «لا أحد يدري ماذا سيكون شكل الحياة بعد التحرير. لا أعلم إن كنا سنفوز أم لا، فهم لديهم السلطة، لكننا لسنا ضعفاء. الكلمات أقوى من الأسلحة».
في الثالثة ترددت الكلمات في أنحاء الميدان في شكل أغنيات تعود إلى حقبة الستينات والسبعينات. تقول كلمات إحدى الأغنيات: «يا مصر عددنا ما زال كبيرا فلا تخافي من قوة الآخرين». وقام محيي صلاح بعزف أغنية على العود وغنى أخرى أمام الجمهور. وكلمات الأغنية هي: «إن مت يا أمي فلا تبكي، فقد مت حتى تعيش بلدي».
واحتدم الجدل السياسي، حيث تناقش المئات من خلال مكبر الصوت عما إذا كان يجب منع التلفزيون الرسمي للدولة في التحرير وإزالة الصور الشخصية من إشارات المرور. لكن تم رفض الاقتراحين عن طريق رفع الأيدي.
لم يغب حس الدعابة الذي يتمتع به المصريون عن المشهد، حيث كتب أحد المحتجين المتزوج حديثا على إحدى اللافتات: «ارحل يا مبارك مراتي وحشتني» وقال البعض على سبيل الدعابة إن «مبارك يحرق نفسه احتجاجا على شعبه». وتساءل أحد الفلاحين من الجنوب قائلا: «أين يمكنني أن أجد شباب الفيس بوك؟».
ومع قرب بزوغ الفجر، يبدأ الشباب الكتابة على الكومبيوتر والدخول على موقع «تويتر» الإلكتروني ومواقع القنوات الفضائية العربية من خلال شبكة الإنترنت اللاسلكي الذي وفرته الشقق المحيطة بالميدان. انتظر رجال لساعتين في صفوف أمام الحمام الوحيد في جامع عمر مكرم. وتمت إقامة خيمتين للمفقودات، بينما ضمت خيام أخرى فنانين وصف أحدهم التحرير بـ«ثورة النور». كان هناك شيء صحيح في هذا الوصف وهي فكرة الزوال.
قال علي سيف، البالغ من العمر 52 والذي يعمل مصورا فوتوغرافيا وشارك في الانتفاضة منذ اندلاعها: «لقد شفاني الله من كل الأمراض والأوجاع»، مشيرا إلى إصابته بمرض السكري والقلب. وقال إبراهيم حميد الذي يقف بجواره: «هذا هو إحساس الحرية».
ومع بزوغ أول خيط لضوء النهار بعد الخامسة بقليل يتردد أذان الفجر، حيث ينادي المؤذن: «الصلاة خير من النوم»، فيستيقظ الرجال والنساء ويتجمعون بينما يتداخل الأذان مع ثورة تمتد في مدينة الألف مئذنة. ويرتبط التحرير للحظة بالقاهرة مرة أخرى. كان محمد فاروق يقف أمام مدخل كوبري قصر النيل المؤدي إلى التحرير. ويقول: «إنك تشعر أن هذا هو المجتمع الذي نريد أن تعيش فيه».
*خدمة «نيويورك تايمز»