ثورة ديسمبر ، إنما هي المزيد من كل شيئ فحسب
عادل إسماعيل
هؤلاء الفتيان و الفتيات الأشداء الذين رماهم تافهون وجبناء بالرصاص الحي ، إنما هم يرفضون سياسات الحزب الحاكم ، و يرفضون حتى وجوده ، لإدراكهم أن الحزب الحاكم و أعوانه قد سمموا حياتهم و أتلفوا أحلامهم بالعيش في وطن يفخرون بالانتماء إليه ، و يكونون شركاء في صياغة معناه و مبناه . و هذا الوطن الذي يفخرون بالانتماء إليه ، إنما هو وطن يتساوى فيه أبناؤه في الحقوق و الواجبات و الفرص . و لذلك هو ، بالضرورة ، وطن يحكمه عقل سياسي جديد مبرأ من سخافات الماضي و أثقاله ، عقل حر بقدر توق هذا الشعب الكريم للتغيير . و لذلك تخبو المظاهرات الاحتجاجية كلما أراد العقل السياسي القديم ، الذي تمثله الأحزاب و التجمعات السياسية الحالية تبنيه . و السر في هذا الأمر هو ما أوضحناه مرارا ، و هو أن مرارة التجربة التي فرضت على الشعب السوداني ، قد أنتجت وعيا متجاوزا للعقل السياسي القديم .
و هو ما عنيناه حين قلنا إن ثورة ديسمبر إنما هي المزيد من كل شيئ : المزيد من رفض سياسات “المؤتمر الوطني” ، و المزيد من رفض العقل السياسي الذي أنتجته انطلاقة استقلال السودان المعووجة و غير الصحيحة ، منتصف القرن الماضي ، ممثلا في القوى السياسية المعارضة . و قلنا ، من قبل ، إن آباءنا المؤسسين للاستقلال لم يكونوا سيئين و إنما كانت تلك الانطلاقة البائسة لبناء الدولة السودانية ، بتلك الطريقة ، هي قصارى فهمهم و إدراكهم السياسي ، و كان على الجيل الذي تلاهم تصحيح الخطأ في انطلاق الدولة السودانية ، و هذا الخطأ إنما هو الخلل الكبير توزيع الثروة و السلطة و ما شمل ذلك من تشوهات على المتصل السياسي و الاجتماعي ، الذي عبر عن نفسه حروبا أهلية فظيعة و مدمرة .
إن النغمة المحببة التي يود المتعطشون للتغيير و الساسة المعارضون سماعها ، هي الصمود و مواصلة الاحتجاجات ، إلى اقتلاع النظام من جذوره ، و إن من يقول بغير ذلك يبدو منشقا عنيدا في نظر كثير من من تعودنا على وصفهم بالمثقفين . و لكن لا يصح عندي إلا الصحيح . و كما يقول السيد المسيح ، عليه السلام ، ماذا ينفع الإنسان إن ربح العالم كله و خسر نفسه ؟؟ و لذلك نكتب ما نرى أنه طريق قويم لتقليل زمن وكلفة عملية التغيير ، أليس ذلك دورنا ؟؟ بل هل لنا دور غيره في هذه الحياة ؟؟
إن الشعب السوداني الكريم لم يخرج في ثورته الحالية استجابة لأحد و لن يقلع عنها استجابة لأحد ، فهو يود اقتلاع النظام من جذوره بالفعل ، بيد أنه يعرف أن جذور هذا النظام تمتد لتشمل الكيانات السياسية الموجودة الآن . كما إنه لا يرغب في تسويات فوقية تعيد ذات العقل المأزوم الذي ولد من رحمه النظام السياسي الحالي . و في حقيقة الأمر ، ما النظام السياسي الحالي إلا تجلي لقصور و فشل العقل السياسي الذي أدار شئون الدولة السودانية منذ صرخة ميلادها .
إذن ، ليس هناك من سبيل للتخلص من هذا العقل السياسي الفاشل إلا بالتغيير الآمن و التدريجي بأقل الدماء و أقل الدماع .
فما هو التغيير الآمن و التدريجي ؟ و ما وسيلته ؟
و التغيير الآمن ، إنما هو الذي يضمن مستقبلا سياسيا خاليا من آفات هذا النادي السياسي القديم الذي يريد أن يتطور الأمر إلى تسوية فوقية تبقيه ضروريا و مقبولا و لو إلى حين ، و ذلك لعدم وجود البديل الجاهز حاليا . فالتسوية التي تحقن الدماء في نظر هذا النادي ، تقتضي وجوده طرفا فيها دون أن يسهر على تطوير نفسه ليلحق بوعي الشعب السوداني المتجاوز له ، و دون أن يدفع ثمن هذا اللحاق الذي هو إحداث تغيير جوهري يطال تنظيره و تطبيقه لهذا التنظير . و أما التغيير التدريجي ، فهو الإطاحة السلسة بالحزب الحاكم . فعندما قام الإسلاميون بالانقلاب العسكري في يونيو 1989 ، احتلوا كل مؤسسات الدولة بعد أن طردوا ساكنيها ، ثم غاصوا في أعماقها حتى قعرها . و لذلك ، فالإطاحة الفورية ، مرة واحدة ، تجعل سلخهم من مؤسسات الدولة مؤلما و نزافا ، حقيقة و مجازا . و هو ما يقتضي إزاحتهم إزاحة تدريجية حفاظا على تماسك الدولة و المجتمع السوداني ، خصوصا و هم قد سهلوا لنا الأمر بانشقاقاتهم و تعرية بعضهم البعض .
فالشعب السوداني بوعيه المتجاوز للمواعين السياسية التي بلورتها سني الاستقلال ، و الذي تحدثنا عنه كثيرا من قبل ، لم يدفعه الغضب و الحنق للتخريب و الفوضى ، إنما وجه غضبه و حنقة على ممتلكات الحزب الحاكم بدقة ، تعبيرا منه أنه إنما يعرف أسباب مآسيه و أسباب حرمانه من الحياة الطبيعية ، فلن تنطلي عليه أكاذيب الحكومة مجددا . على سبيل المثال ، عندما اتهمت الحكومة و حزبها الحاكم حركة عبد الواحد بعمليات قتل المتظاهرين ، سخر منها الشعب السوداني و تساءل: من قتل إذن ثوار سبتمبر 2013 ، حيث كان القتلة يتجولون بسيارات بغير لوحات ؟؟ فالشعب السوداني ، إذن ، يدرك أن حركة عبد الواحد و بقية الحركات المسلحة ليسوا مجموعة من قطاع الطرق ، إنما هم أصحاب قضايا عادلة و هي نفس قضايا الشعب السوداني في توقه في خلق وطن محترم يساوي بين أبنائه في ثرواته و سلطاته و يفخرون بالانتماء إليه ، و يشاركون في صياغة معناه و مبناه .
أما وسيلة التغيير الآمن و التدريجي ، إنما هي الانتخابات .
كان و ما يزال من أهداف الفعل الانتخابي ، إحداث خلخلة في تربة العقل السياسي السائد من أجل استزراع فكر وطني نير ، يبلور مشروع نهضة غاب عنا منذ صرخة الاستقلال في يناير 1956 . و رغم الثمن الغالي و الفادح الذي قدمه شبابنا في ثورته هذه ، إلا أنه لن يضيع سدى . فقد أحدث هذه الخلخلة التي نتحدث عنها ، و جعل الحزب الحاكم في أضعف حالاته ، و تشقق و وهن عظمه و جثا على ركبتيه ، بل مرغ أنفه في التراب و إن تظاهر بغير ذلك . فها هو الحزب الحاكم نفسه يبتدر تحقيقا عن مطلقي الرصاص الذين يتظاهر بأنه لا يعرفهم ، و ها هي دوائر المال المرتبطة به تعلن تغذيتها للبنوك بالسيولة ( من أين جاءت بهذه السيولة ؟ و أين كانوا يحتفظون بها ؟ ) ، و ها هم بعض أتباعهم يتبرأون منهم ، و بعض آخر يطالبهم بدعم الخبز و الرعاية الصحية و التعليم .
إن ثورة سبتمبر التي قدمت المزيد من كل شيئ ، إنما هيأت الوضع تهيئة مثالية لاكتساح الانتخابات لمصلحة برنامج التغيير ، و التخلص من النادي السياسي القديم بأكمله ، خصوصا بعد التعاطف الواضح للتغيير الذي أبداه حماة مؤسسات الدولة . و لن يستطيع قيادة برنامج التغيير إلا شخصية مستقله مبرأة من سخافات الماضي ، و منفتحة على المستقبل ، و قادرة على التعلم المستمر ، و قادرة على التفاعل الايجابي مع المتغيرات ، و قادرة على استعادة ملف أزمات السودان من الخارج و إشراك أطرافها في حلول مرضية . و لا يوجد ، حتى الآن ، ما يحمل هذه الصفات الضرورية سوى برنامج “حملة سودان المستقبل” و مرشحه الأستاذ عادل عبد العاطي ، فهو برنامج بسيط و سهل يتمحور حول بناء دولة يتساوى فيها مواطنوها ، و تحقيق السلام و العدالة ، و خلق فرص العمل ، و حل المليشيات و دمجها في هياكل القوات المسلحة السودانية ، و توفير الرعاية الصحية التعليم الأساسي مجانا ، و توظيف موارد الدولة للعيش الكريم لهذا الشعب الكريم ، و العلاقات المتوازنة مع العالم .
و يمكن البناء على ثورة ديسمبر لجهة تحسين شروط خوض الانتخابات . ذلك أمر حيوي لأنه ، في خاتمة المطاف ، سيحسم الأمر فعل انتخابي . على سبيل المثال ، يمكن الضغط لمراجعة قانون الانتخابات و مفوضيتها ، و محاصرة الحزب الحاكم لاستخدامه موارد الدولة و إمكاناتها في العملية الانتخابية . كما يمكن لمن هم خارج السودان توظيف ما لديهم من علاقات و موارد في دعم و تطوير برنامج التغيير الانتخابي هذا . فقد حمل هؤلاء المغتربون و المنفيون ، الذين شردهم العقل السياسي المأزوم ، مشاعر جياشة تجاه قتلانا و جرحانا في هذه الأيام المتوترة ، حيث يمكن لهم توظيف علاقاتهم الدولية لإقناع المجتمع الدولي بأن هزيمة النظام في الانتخابات لن تعرض مصالحهم للخطر ، إنما هي مصالح مشتركة لتحقيق السلام و الاستقرار في المنطقة ، و الحفاظ على ما تم من اتفاقيات إحلال السلام في السودان و تطويرها بما يخدم هذا السلام . و يمكن لهم ، أيضا ، توظيف علاقاتهم مع وسائل الإعلام لنشر برنامج “حملة سودان المستقبل” و استدراج و سائل الإعلام هذه لتغطية العملية الانتخابية ، و ذلك لكسر احتكار مركز كاتر و من لف لفهم لمراقبة سير العملية الانتخابية ، و بالتالي ، إحداث مزيد من الضغط على من يتلاعبون بنتائجها .
و عندها فقط ، و فقط عندها ، يتحقق انطلاق جديد لوطن محترم لشعب كريم . و ذلك أجدى من انتفاض عالي الكلفة ، ثم انتقال عالي القلق ، ثم أحزاب منخفضة الكفاءة ، ثم انقلاب منخفض الطموح ، ثم آمال مهيضة .
هذا هو رأينا ، و هذا هو ما نطرحه من حلول جذرية و آمنة ، و كان الله يحب المحسنين .