قراءة المشهد السياسي في السودان بعد ما يقارب عقدين من الزمان على استيلاء الحرك الإسلامية على السلطة في الخرطوم صعب للغاية أن لم نقل مستحيلا، ذلك لأن القائمين على أمر الحكم في البلاد يقولون ما لا يبطنون، ويظهرون ما لا يريدون، وهم أشبه بالأسد العرم في ابتسامته، إلا أن هنالك ثلاثة تصريحات ضبابية وهلامية في ظاهرها ولكنها قوية ونارية في باطنها يشتم من وراءها رائحة الموت والدم دفعتني لإصدار هذا الكتاب. ثلاثة تصريحات أكدت
بما لا يدع مجالاً للشك، أن المشهد السوداني دخل في طور العبث الذي ينتمي إلى عالم اللامعقول كما قال الكاتب والمفكر الإسلامي المصري الكبير فهمي هويدي في كتابة (مقالات) محظورة.
التصريح الأول جاء على لسان المستشار السياسي لرئيس جمهورية السودان الدكتور نافع علي نافع ببورسودان في 18 يوليو من عام 2009، (نحن نعلم تماماً إذا . حانت ساعة المواجهة لن يظهر هولا الكهول، وأن بعض القيادات السياسية لن تمكث وقتها في السودان ) !
التصريح الثاني أوردته صحيفة الوفد المصرية في عددها الصادر بتاريخ في ديسمبر 2008م، وفية أكد رئيس وزراء السودان الأسبق ورئيس حزب الأمة المعارض الصادق المهدي أن الدماء ستملاء الطرقات والشوارع السودانية، في حال صدور قرار من قضاة المحكمة الجنائية الدولية لتوقيف الرئيس السوداني عمر حسن البشير، واصفا الجنائية الدولية ( بالخشنة) التي يمكن أن تؤدي لحدوث فوضى شاملة وحرب أهلية بالسودان. وهذا التصريح في غاية الأهمية وان لم تمتلي شوارع وطرقات السودان بالدماء بعد صدور القرار كما توقع السيد الصادق المهدي، وتكمن أهميه القرار في أن الرجل قال مالم يود قولة صراحة.
التصريح الثالث والأخير وهو الأهم في تقديري، لأنة يفسر كل ما جاء في هذا الكتاب من رسائل وإشارات وعلامات استفهام دارت- ومازالت- تدور في أذهان الكثيرين داخل السودان وخارجة، وهو اتهام الرئيس السوداني عمر البشير في اجتماع مجلس الشورى الأخير للمؤتمر الوطني (الحزب الحاكم) الحركة الشعبية بتقييد العمل السياسي في جنوب السودان، وقولة أن استخباراتها هي الحاكم الفعلي في جنوب السودان.!
والأمر الذي نرى أنه من المفيد لفت النظر إليه، أن هذه التصريحات تستدعي التأمل والنظر في مضمونها باستمرار لأنها تحمل أكثر من دلالة وإشارة بالأخطار المحدقة بالوطن، وغيرها من الممارسات الرقيقة والعنيفة على الأرض في أكثر من مكان واتجاه، وهي التي دفعتني إلي إصدار هذا الكتاب. وأشعر قبل المضي في الحديث عن هذا الكتاب، أن أسجل اعترافاً بأنني ترددت كثيرا في إخراج هذا الكتاب إلى النور، لاسيما بعد أن طالعت خبراً في إحدى الصحف السودانية بان إحدى المحاكم في الخرطوم تقوم بمحاكمة ثلاثة سودانيين بينهم امرأة لإصدارهم كتاب حول دارفور. ولكن كلمات ورقة ابن نوفل للنبي (ص) حين عرض علية دعوته: ( ما جاء احد بمثلِِ ما جئت بت إلا أوذي )، كما أن خوفي على وطني أرضا وشعباً زاد من إيماني وقناعاتي بأهمية تجميع هذه الأوراق (اليومية) وإصدارها في كتاب. وهي تصور المشهد السياسي في السودان بعد توقيع اتفاقية نيفاشا وتنزيلها على ارض الواقع إلى وقت ليس ببعيد عن الانتخابات والاستفتاء على حق تقرير المصير للجنوب والاستفتاء على تبعية أبيي. والكتاب الذي بين أيديكم قد يجعل المتابع للشأن السوداني والقاري على بينة وبصيرة للأسباب والدواعي التي حالت دون جعل خيار الوحدة بين الشمال والجنوب جاذباً بعد الاستفتاء على حق تقرير المصير. كما أنه بجانب كونه يعد مرجعاً مهماً للباحثين في مسارات تاريخ الأمم والشعوب وللمهتمين بالعمل الإعلامي والسياسي والقانوني والاجتماعي، يلقي على كاهل حكومة الخرطوم مسئولية ضخمة وهي معاجلة الخلل والاضطراب الذي طغى على عقول الكثيرين من أهل السودان. لأن السلام المبني على مجرد الاتفاقات السياسية لا يمكن أن يكون هو السلام الذي يضمن التأييد الكامل للشعب ما لم يسانده الترابط العقلي والعاطفي، كما جاء في عهد الشرف الدولي للصحفيين الذي يقول في ديباجته المقتبسة من ديباجة دستور اليونسكو (حيث أن الحرب تبدأ في عقول البشر، ففي عقول البشر ينبغي أن نبنى قلاع الدفاع عن السلام).
قد يكون صحيحاً إلى حد بعيد القول: أن الكتاب رؤوس مواضيع لقضايا ومشاكل شتى لا يجمع بينها رابط الخطر الذي يحذر منة مؤلف الكتاب، ولكن الصحيح أيضا أن هذه القضايا والمشكلات إذا ما أَخذت بالمنظور الكلي، لا تخرج كثيراً من واقع (الكفر (والاستياء من الحياة في مجملها، والذي يقود بصورة أو أخرى إلى حالة غياب الوعي والكراهية التي قد تدفع الكثيرين إلى الفوضى وحمل السلاح –أيا كان نوعه – والموت تحت رايات يغلب عليها عمى الألوان، كما يجري الآن في بعض جهات السودان.
ويحتوي الكتاب على افتتاحيه قد تكون سابقة في عالم الكتب، لأن كاتبها رحل عن الدنيا بالموت شنقًا بسبب معتقداته وأفكاره، وهو زعيم الجمهوريين محمود محمد طه الذي تنبأ قبل ما يقارب عن نصف قرن من الزمان باستيلاء الحركة الإسلامية على السلطة في السودان، وقوله أنها ستذيق الشعب السوداني الأمرين، وتحيل نهاره إلى ليل .
ويتضمن الكتاب سبعه فصول، يتناول الكاتب في الفصل الأول اتفاقية سلام نيفاشا التي أبرمتها الحكومة السودانية مع الحركة الشعبية لتحرير السودان، وكيف أنها أسهمت في نقل الحرب من الجنوب إلى الشمال بعد إنزالها على الأرض، وفي هذا الفصل نتناول بالتحليل ما جاء في الاتفاقية من بروتوكولات، خاصة اتفاقية الترتيبات الأمنية وبروتوكول آبي. وفية يحذر الكتاب من وجود مخاطر عديدة تواجه السودان، ومفاجآت لم تكن في أذهان المتفاوضين على اتفاقية السلام، قد تعكر صفوة العلاقات بين الشمال والجنوب في
حالة وقوع الانفصال.
وفى الفصل الثاني يتناول انتقال الحرب من جنوب السودان إلى شماله خاصة في دار فور، التي أدخلت البلاد في نفق مظلم بعد أن راح ضحيتها أكثر من (200) ألف قتيل، وملايين النازحين والاجئيين داخل السودان وخارجة استدعت تدخل المجتمع الدولي. ويركز في هذا الفصل على عرض الصور المأساوية لازمة دارفور وما خلفته من مآسي وخراب ومقابر جماعية وحالات اغتصاب. وفيه يحذر المؤلف من تداعيات وانعكاسات أزمة دار فور على السودان كله ما لم يتم التوصل إلى حل سريع لها.
ويتصدى الكتاب في الفصل الثالث من خلال ثلاث مداخلات للتدخل الدولي في السودان وأشكاله، بالإضافة إلى القرارات العقابية من جانب بعض الدول الكبرى ضد السودان وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، والدعوة الفرنسية حيال دارفور. وفي المداخلة الثانية يتناول التدخل الإقليمي في السودان من بوابة أزمة دارفور، وفيه يتحدث عن دور الاتحاد الإفريقي وتشاد وليبيا على صعيدي الحرب والسلم في أزمة دارفور. ويتناول في صياغته الأخيرة للمداخلة الثالثة من خلال عدة محاور، تدخل الجنائية الدولية في الشأن السوداني، وأن كان من خلال سياق القانون الدولي. وفي هذا الفصل يبدي الكاتب تخوفه من أن تشمل لائحة الاتهام الرئيس السوداني عمر حسن البشير.
وفي الفصل الرابع يتناول الكتاب مظاهر تفتيت السودان من خلال الأبعاد السياسية والاقتصادية والخدمية من خلال عدة محاور، وفي مداخلته الأولى يستعرض أنماط القوى السياسية الحاكمة في السودان، وفيه يتحدث عن الأب الروحي للحركة الإسلامية الدكتور حسن عبدا لله الترابي بعد خروجه من السلطة. والأستاذ محمد إبراهيم نقد الأمين العام للحزب الشيوعي السوداني وقيادات سياسية أخرى. بالإضافة إلى تناوله في المداخلة الثانية بعض المظاهر التي تشير بصورة ما إلى ما يمكن تسميته بشريعة الغاب وانفراط عقد النظام ، خاصة من شرائح شبابية لعبت دورا جوهريا في تمكين الإنقاذ من البقاء في السلطة لما يقارب عقدين من الزمان.
ويحتوي الفصل الخامس بعض القضايا التي يرى الكتاب أنها ربما قد تكون من الأسباب الرئيسية التي تؤدي إلى أن يصل السودان إلى هذا الدرك الخطير من الانهيار، والذي وصل إلى حد حمل السلاح ضد الحكومة، ومنها قضايا الفساد التي انتشرت كالسرطان في مفاصل الدولة دون أن تجد علاجاً، وبعض المشكلات ذات الصلة الوثيقة بحياة المواطن.
ويتطرق الكتاب في الفصل السادس للأسباب الرئيسية التي قد تؤدي إلى تفتيت السودان، وعلى رأسها السياسات التي انتهجتها الحكومة منذ استيلائها على السلطة حيث اعتمدت على سياسة تجيش الأمة وتسليح كوادرها، إضافة إلى إبرام اتفاقيات السلام سمحت لبعض المليشيات بالاحتفاظ بسلاحها والأراضي التي كانت تسيطر عليها، وذهابها إلى ابعد من ذلك، بالسماح لتلك المليشيات بإدخال أفرادها وسلاحها للمدن، خاصة المدن الكبيرة منها مثل عاصمة البلاد الخرطوم . ويتضمن الفصل السابع والأخير الجهات التي يمكن أن تعتبر مسئولة عن حالة الانهيار والتفتت الذي يمكن أن يتعرض له شمال السودان بعد انفصال الجنوب، وفيه يحمّل الكاتب كل القوى السياسية
في الساحة المسئولية عن الحالة التي يمكن أن يصل لها السودان في المستقبل المنظور. كما يحذر من مخاطر سقوط لغة الخطاب السياسي التي ظهرت بصورة لا تقبل التشكيك في وسائل الإعلام المحلية والعالمية، وتداعيات ذلك على أمن و استقرار البلاد .
أملي كبير أن يحظى هذا الكتاب بعناية المسئولين عن دوران عجلة السياسة والأمن في البلاد، والقاري الكريم داخل السودان وخارجة في أعلى قمم السلطة وقواعدها، وهذا الأمل مقرون برجاء التفهم لأسباب قلقي وخوفي على السودان أرضا وشعباً، على أمل أن نتكاتف معاً لإبعاد شبح التفتيت الذي يهدد السودان الشمالي بعد أن أصبح التقسيم للسودان الكبير واقعاً لا مفر منة، و
الله من وراء القصد .
محمد النعيم