قادة النظام تخلوا عن سابق الأوهام حول نشر الإسلام في افريقيا وغيرها، بل حتى عن التمسك بالإسلام في السودان نفسه
د. عبدالوهاب الأفندي
في خطاب ألقاه في الاحتفال بيوم الجيش في الجنوب الأربعاء الماضي (وهي الذكرى التي تصادف انطلاق العمل المسلح ضد الحكومة السودانية في الجنوب عام 1983) عاتب رئيس دولة جنوب السودان الفريق سلفا كير ميارديت جيران دولته الأفارقة لتقاعسهم كما قال في دعم حربه ضد السودان. وبحسب كير فإن ذاك التقاعس نتج عن اعتقاد الجيران بأن الجنوب يحارب دفاعاً عن نفسه فقط، ولكن الجنوب في الحقيقة يدافع عن كل افريقيا ضد حملة الأسلمة والتعريب. فحكام السودان يقولون بأن الحركة الشعبية هي العقبة التي تقف في طريق خططهم لنشر الأسلمة والتعريب حتى جنوب افريقيا، وأنهم لو هزموها فلن يقف في طريقهم شيء.
هناك بالطبع أسباب عدة لا تجعل جيران الجنوب يصدقون أن الحرب بين شطري السودان هي حرب دينية، رغم صيحات الجهاد التي تتعالى بغير حقها من منابر الخرطوم الإعلامية. فلتلك الدول خبرة طويلة في التعامل مع نظام الخرطوم، بل وتحالفات معه، ولهذا فهي أعرف بدوافعه. هذا إضافة بالطبع إلى أن دولة الجنوب هي التي ظلت تشن الحرب هذه المرة، سواء في هجليج وحفرة النحاس، أو في جنوب كردفان والنيل الأزرق، وهو أمر لم يخف على مخابرات تلك الدول.
صحيح أن بعض قيادات النظام (السابقة والحالية) في الخرطوم، ظلت تتحدث عن الجنوب بخطاب الأسلمة، وتسوق لأوهام أن استمرار سيطرتها العسكرية والسياسية على الجنوب سيساعد في نشر الإسلام هناك، وهو من آيات خطل الرأي. ذلك أن الحرب وما تسببه من خراب ودمار وتشريد لا يمكن أن تكون دعاية حسنة لأي ملة. هذا إضافة إلى تعامل الأجهزة الرسمية مع الجنوبيين خلال الحرب، وبسببها، بالفوقية واللامبالاة في أفضل الأحوال، وفي غير ذلك بالاضطهاد وإساءة المعاملة، مما دفع بكثير من مسلمي الجنوب قبل غيرهم إلى الانضواء في صفوف التمرد.
مهما يكن، فإن قادة النظام تخلوا عن سابق الأوهام حول نشر الإسلام في افريقيا وغيرها، بل حتى عن التمسك بالإسلام في السودان نفسه. هذا علاوة على أن أفعالهم أصبحت تصد الناس عن الدين والتدين بسبب ما علق بأذهان الناس من ربط بين دعاوى التدين وكثير من المنكرت. ويكفي تذكيراً بذلك ما تشهده البلاد هذه الأيام من تلاسن علني بين وزير الإرشاد والأوقاف والأمين السابق لديوان الأوقاف، واتهامات متبادلة بالفساد وسوء الإدارة، وبقية أركان الحكومة تتفرج على هذه المهزلة! فنحن هنا أمام مصيبة كبرى لو كان هذا الرجلان أو أحدهما كاذباً وهما في هذا الموقع، وهي مصيبة أكبر لو كانا صادقين!
لكل هذا فإن أي تهمة لهذه الحكومة بأنها بصدد نشر الإسلام ودعمه، حتى داخل مكاتب وزرائها، هي بالقطع افتراء مبين. ولعل التهمة الأحق في شأنها هو أنها تصد عن سبيل الله كثيراً بما ألحقته من إشانة سمعة لكل من يدعي بالإسلام تمسكاً. وقد تعززت هذه “البراءة” كون السلطة هذه الأيام ترى أعدى أعدائها هو المؤتمر الشعبي، الذي يتزعمه الشيخ حسن الترابي، مهندس سياسة “التوسعية الإسلامية”، إن صح التعبير، للنظام. والمعروف أن أحد أهم الخلافات بين الشيخ الترابي والأجنحة المناوئة له داخل السلطة في منتصف التسعينات تمحور حول سياسية “تصدير الثورة”، والعلاقة مع الحركات الإسلامية في الخارج، وهي سياسة تولاها الشيخ عبر المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي وقنوات أخرى. وقد كان من أول تجليات الصراع صدور قرار رئاسي بإلغاء اتفاقية المقر مع المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي، استجابة لضغوط عربية وأجنبية.
وفي نظري أنه قد كانت هناك مبالغة في دور المؤتمر الشعبي في تصدير “التطرف الإسلامي”، والأولى أن يقال أن المؤتمر كان يسعى إلى تجميع جهود المنظمات الراديكالية بمختلف توجهاتها، لأن بعض الجهات المشاركة فيه، مثل الحزب الاشتراكي اليمني والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وأحزاب البعث في سوريا والعراق، كانت منظمات علمانية وحتى ماركسية، وبعضها كانت تحت قيادة مسيحيين.
كانت هذه إشارة مبكرة، حتى قبل التقارب الأخير بين الحركة الشعبية والمؤتمر الشعبي، بأن المبادئ، بما في ذلك المبادئ الدينية، تخضع لكثيرمن الأخذ والرد حين يتعلق الأمر بالسياسة. فعداء الحكومة السودانية مع المؤتمر الشعبي تقابله خصومة الحركة الشعبية مع قوى جنوبية، بعضها كانت قيادات في الحركة الشعبية وجيشها. وليس هذا الوضع بجديد. ففي الشمال كان النظام ولا يزال على عداء مع قوى إسلامية، كان من بينها حركة الإخوان المسلمين وبعض التيارات السلفية، قبل أن تتجه بعض هذه المجموعات إلى التحالف مع النظام بعد انشقاقه عن الشيخ الترابي. وقد اصطدمت السلطات كذلك مع الأحزاب الكبرى ذات القاعدة الدينية، مثل حزب الأمة والحزب الاتحادي الديمقراطي، بينما استوعبت شخصيات وتيارات معروفة بتوجهاتها العلمانية، خاصة من بين أنصار الرئيس الأسبق جعفر النميري.
أما في الجنوب فإن الحركة الشعبية شنت أول حرب لها هناك ضد حركة أنيانيا 2 التي كان قد سبقتها في التمرد، بدعوى أن تلك الحركة كانت انفصالية. ولكن العامل القبلي لعب (ولايزال للأسف) دوره، إذ أن قاعدة حركة أنيانيا كانت من قبيلة النوير، بينما كان سند الحركة الشعبية الأهم بين قبيلة الدينكا. وقد لعب العامل القبلي دوره كذلك في الصراعات العنيفة بين الحركة الشعبية والميليشيات المحلية في إقليم الاستوائية، وبعضها ما تزال رحاه دائرة حتى اليوم. كان الأمر نفسه في الانشقاق الذي شهدته الحركة الشعبية في صيف عام 1991، وقاده نائب رئيس حكومة الجنوب الحالي د. رياك مشار والسياسي المعارض حالياً د. لام أكول، وذلك بدوافع سياسية، تمثلت في الشكوى من التوجهات الاستبدادية لزعيم الحركة د. جون قرنق. وقد تمحور الخلاف حول إصرار قرنق على فرض رؤيته “الوحدوية” ضد غالبية كانت تفضل الانفصال، إضافة إلى التحالف الوثيق مع النظام الاثيوبي. وقد مثل انهيار ذلك النظام وفقدان قرنق للسند الذي كان يمنحه نقطة الانطلاق للانشقاق.
إلا أن قرنق والمحيطين به نجحوا بسرعة في تحويل الصراع إلى صراع قبلي، عبر تخويف الدينكا من الانضمام إلى المنشقين ممن ينتنمون إلى قبائل أخرى. وكان النتيجة انزلاق الجنوب إلى صراعات قبلية كانت أشرس من أي معارك مع الجيش الحكومي، وما تزال مناطق كثيرة في الجنوب تعاني من ذيول تلك الصراعات.
خلاصة الأمر أن الزج بالعامل الديني في الصراع هو من الحيل السياسية التي تتبعها سلطات ذات نزعة استبدادية وشخصانية، من أجل البقاء في السلطة بأي ثمن، حتى وإن كان الثمن مخادعة الله ورسله. ولا ينفي هذا أن بعض القيادات متدينة بالمفهوم الضيق للتدين، وهو مفهوم لا يخلو من طائفية. فالمعروف أن الرئيس سلفا كير من المتمسكين بالعقائد المسيحية، وينعكس هذا في سلوكه الشخصي كما أنه ينعكس في الإعلام الرسمي الذي يروج للمسيحية بكثافة، رغم تأكيد سلفا كير في خطابه الأخير على علمانية الدولة ونأيها بنفسها عن التدخل في أمور الدين. ولكن حتى هنا فإن السياسة تلعب دورها. فبالرغم من سلفا كير كاثوليكي المذهب، فإنه وحركته على تحالف وثيق مع الحركات الانجيلية الأمريكية البروتستانتية ذات الحضور القوي في الإعلام الرسمي الجنوبي.
نفس الملاحظات تصح في حال الشخصيات القيادية في جمهورية السودان، فكثير منهم معروفون بتدينهم الشخصي الشكلي، دون أن يعصمهم ذلك من كثير من منكرات ظاهرة، بل قد يزين لهم بعض سيء أعمالهم. فقد يبرر بعض هؤلاء صرف المال العام في غير وجهه، أو توسيد الأمر لغير أهله، أو الاعتداء على حريات الناس وحقوقهم بأنه من أجل نصرة الدين و “التمكين” له. وما الخلاف المحتدم حول الأوقاف وإدارتها إلا مثالاً صارخاً على المنحدر الذي يمكن أن ينزلق إليه مثل هذا الفهم الملتبس للدين، وهو فهم أدان القرآن مثله من أهل الكتاب الذين كانوا يجيزون الاحتيال على مخالفيهم في الدين بدعوى أنه “ليس علينا في الأميين سبيل”.
المشكلة هي أن الاستمرار في استخدام الخطاب الديني وتهييج المشاعر والخلافات الدينية كأداة سياسية، حتى حين يكون ذلك نفاقاً ومناورة، كثيراً ما يزيد من عنف الصراع، ويساعد على استمراره حتى بعد النجاح في معالجة أسبابه الموضوعية. ولهذا فإن من الحكمة مقاومة إغراء استخدام التجييش الديني في أمور لا علاقة للدين بها. ففي الجنوب مسلمون كثر يجب مراعاة مشاعرهم ومصالحهم، كما أن كثيراً من أهل الشمال، بمن فيهم كما أسلفنا “إسلاميون” كثر، لا يوافقون الحكومة سياستها التي تستخدم الخطاب الديني في غير موضعه كما يرون.
ولعل في كل هذا تذكير بأن شعبي البلدين أحوج ما يكونان إلى تغيير في عاصمة كل منهما، يجب أن يكون تغييراً في السياسات، وإلا فلا بد من أن يكون فيمن يصنعونها. ذلك أن تلكفة بقاء هؤلاء في السلطة في ارتفاع مستمر يضارع ارتفاع سعر الدولار على حساب العملات المحلية في البلدين!
[email protected]
القدس العربي