اوراق قديمة في رحيل الشاعر الحاردلو
صديق محيسي
فى عام 1976 من القرن الماضي وفي شارع 51 بالعمارات الساعة الثانية عشر ليلا المنزل رقم 62 تناهت الي اذني صوت سيارة تاكسي خارج السور ثم تبع ذلك طرق متقطع علي الباب , كان الطارق هو سيد احمد الحاردلو شامي القادم لتوه من كينشاسا يرافقه قريبه الصديق عبد الله رمرم الذي يعيش ببريطانيا الان, جاء حاردلو منقولا الي الرئاسة في الخرطوم حاملا حقائبه تسبقه ضحكاته قريبة الشبه بصوت ماء يخرج من قلة, عشنا سويا قرابة العام, ثالثتنا الصديق يحي العوض الذي كان كان منزله قريبا منا, عرفت الحاردلو كما يعرف قصاص الأثر عمله , انيقا يقف امام المراة اكثر من مرة , يشد قميصه داخل بنطاله, ويطالع وجهه , ويصفف شعره ليتأكد انه يخرج مكتملا قبل تجيئه سيارة الوزارة لتأخذه الي مكان عمله, كان الحاردلو محبا للحياة شقوفا بها , غارفا من نهرها قدر ما يستطيع, تبتهج روحه للمؤانسه وتفيض احاسيسه رقة تسري علي من حوله مثل عود ندي زكية رائحته, يتنفس الشعر سائحا في جزر روحه الشفيفة يختار مفرادته مثلما يختار خولي ازهاره من بين الحشائش, جاء الحاردلو ومن وراءه تاريخ طويل من السير في درب الحياة ,طالبا في جامعة القاهرة مرتادا منتدياتها الادبية وكاتبا في صحفها اولي قصائده الشعرية تفتح علي حدائق الشعر والمسرح والسينما في عصر نجمات مضيئات فاتن حمامه وشادية ومديحة يسرى وعبد الحليم حافظ وعبد الوهاب , وصلاح عبد الصبور وعبد المعطي حجازي وجيلي عبد الرحمن وتاج السر الحسن والفيتوري ومحي الدين فارس وعبد المنعم عبد الحي درس الأدب الأنجليزى وتخصص في لغته ومن هناك كتب اولي مجموعته القصصية ملعون ابوكي بلد التعبير الذى صار مثلا يضربه الناس عندما يهزؤون ساخرين من حكام السودان, وصل الحاردلو الي الخرطوم في ستينات القرن الماضى قبل ان يصلني ونعيش معا فى ثمانينات القرن نفسه زين الصفحات الادبية بأشعاره حين كان للشعر بوح , وللفن اصالة وللمذياع سيادة , وللجريدة سطوة, اشرف الحاردلو علي صفحة الادب في صحيفتي النداء والعلم ونشر قصائد الحب والوله ليفتح نافذة الي مدرسة الشعر المخملي روادها نزار قباني وعمر ابوريشة والياس ابو شبكه يشاركه فيها ابو امنه حامد , والفاتح التيجاني, وعثمان عبد السيد , والسر دوليب ,ومحمد سعد دياب ,انهم جيل من الحداة اضاؤا سما ء العاصمة بالعشق النبيل,نجوم في المجتمع وبيوت الاعراس تهفو لهم قلوب الفتيات فرسان احلام يداعبون خيال الحسان يشار اليهم في المحافل والطرقات عشنا سويا الحاردلو ويحي العوض , وشمس النميري تؤذن للغروب تشتد عليه المعارضة من كل صوب , تعصف المجاعة بالناس في الشرق والغرب يشاركون النمل في بيوته. قاد الطموح الحاردلوالي وزارة الشئون الاجتماعية عندما اختارته الوزيرة يومها فاطمة عبد المحمود مساعدا للوكيل الشاعرعبد المجيد حاج الامين بقرار رئاسي ورغما من تحذيراتنا عدم تركه الخارجية وقبول هذا العرض الغامض ,الا انه اصر علي القبول بأعتبار ان ذلك ربما يقربه من منصب الوكيل , وربما يصير وزيرا, ادخل الحاردلو نفسه في مأزق (غلب الجودية )عندما فصلته الوزيره لاسباب غير معلومة , فلا هو استطاع العودة الي وزارته القديمة لأن العودة تتطلب قرارا جمهوريا من النميري ولا الوزيرة الغاضبة مستعدة لقبوله مرة اخري , فظل معلقا حائرا افضي به البحث عن حل الي البروفسير الراحل محمد عمر بشير الذي توسط له ليعود مرة اخري الخارجية بعد تجربة مريرة تركت اثرا في نفسه, خاض الحاردلو معارك ادبية كثيرة من اهمها معركته مع الروائي والناقد الراحل محمود محمد مدني , كتب محمود يومذاك سلسة مقالات ناقدا فيها ديوانه (غدا نلتقي ) الذي وصفه مدني بأن معظم مفراداته مأخوذة من شعر نزار قباني , وانه يدخل في خانة ادب الفراش , وان الحاردلو نفسه شاعر بلا قضية , فرد الحاردلو علي محمود ردا عنيفا انتهي بمشاجرة واشتباك بالايدي فتدخل الشاعر الراحل عثمان خالد ليفض الاشتباك بين الاثنين, الكثيرون وانا احدهم كنا نأخذ علي الحاردلو محدودية قاموسه الشعري وقدرته علي ترحيل مفرادته وصوره الشعرية من قصيدة الي اخري وهو ما يغيب معه تجدد الابداع عنده , ولكن الحاردلو كان يغضب غضبا شديدا ويرجع رأينا الي مجرد الحسد عليه, في مطلع الستينات شارك الحاردلو ابو امنه حامد والفاتح التجاني وعثمان عبد السيد في طبع الحركة الشعرية بطابع النزارية الوافد الي السودان حيث لم تكن تخلو مكتبة بيت من دواوين نزار قباني طفولة نهد , قالت لي السمراء, الرسم بالكلمات , وخبز وحشيش وقمر , لم يستطع الحاردلو التخلص من نزار قباني الي ان هجر الشعر الفصيح وتحول الي الشعر الدارجي الذي غلب عليه في الفترة الاخيرة فصارت له قضية لأول مرة في حياته ثم سلطت عليه الاضواء مرة اخري عندما كتب قصيدته ( تقولي منو وتقولي شنو ) التي غناها الفنان عثمان اليمني و(يابلدي ياحبوب ) التي انشدها محمد وردي.
لم ينتم الحاردلو الي اى حزب سياسيى في حياته , كان يكتب قصائد معارضة للنميري باسماء مستعاره حتي لا ينكشف امره للجهات الامنية , و في العام نفسه الذي شاركني فيه السكن انخرط يعمل معنا يحي العوض , والطيب محمد الطيب , وحسن جواري وانا في فرقة مسرحية اطلقنا عليها اسم (دفوف,) كانت فكرة الفرقة هي ان تقدم التراث السوداني من مصادره دون تدخل لتغيير طبيعته , وبدأنا اول مابدأنا بتقديم طقس الزار فأخذتنا جرأة الطيب محمد الطيب الي قاع المدينة حيث الذين يؤدون طقس الزار علي اصوله, قدمت الفرقة اول عرض لها علي مسرح المجلس القومي للفنون والاداب , واخترنا قصيدة الحاردلو (تقول منو ) خلفية موسيقية بصوت المذيع المبدع الراحل سمير ابوسمرة, كان المسرح حاشدا والعرض شيقا حضره وزير الاعلام عمر الحاج موسي الذي امر بعد نهاية العرض منعنا من الاستمرار في تقديم مشهد الزار بعناصر من قاع المدينة .
في عام 1983 ذهبت من صحيفة الراية القطرية الي تونس لحضور مؤتمر دولي دعما للقضية الأرترية , هناك التقيت الصديقين عمر السورِي مساعد الامين العام لاتحاد الصحفيين العرب حينذاك, وادريس عو ض الكريم المتفرغ لدعم الثورة الاريترية والذي كان يعمل في صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين قيادة الدكتور جورج حبش هرب ادريس عوض الكريم من السودان بعد انقلاب يوليو متخفيا حتي وصل الاراضي الاريترية التي تسيطر عليها الجبهة الشعبية بقيادة اسياس افورقي ومن هناك وصل الي بيروت لينضم الي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين يعمل في صفوفها مترجما , التقينا ثلاثتنا في تونس اتصلت اول ما اتصلت بصديقي سيد احمد الحاردلو الذي كان يعمل ضمن بعثة السودان فى الجامعة العربية بعد ان انتقل مقرها الي تونس اثر زيارة السادات الشهيرة للقدس
رحب بنا الحاردلو ووعد بزايارتنا في الفندق الذي ننزل فيه , ولكنه استبدل ذلك بدعوة عشاء سريعة في منزله الكائن في احد الاحياء الراقية في تونس فشكرنا ه علي الدعوة ووعد هو بارسال سيارته لايصالنا المنزل , ولكنه عاد مرة اخري وطلب منا طلبا غريبا استهجناه بشدة وهو ان نتخلص من ادريس عوض الكريم اي( نزوغ ) منه ,لأن الرجل في رأيه مشبوه , وأنه يخشي من مسئول الامن بالسفارة الذي سيحضر العشاء, كان رفضنا الغاضب سريعا للطلب إما ادريس معنا أو رفضنا الدعوة كلها وشكرا , فتراجع الحاردلو معتذرا , ووافق علي حضور ادريس ولكنه فرض علينا مرة اخري شرطا جديدا هو الا نتحدث في السياسة في حضرة السفير ومسئول الامن , فعدنا مرة اخري وصرفنا النظر نهائيا عن الدعوة الي ان حضر بنفسه الي الفندق شارحا ظروف منصبه , وجادلنا حتي اقنعنا فقبلنا تلبية الدعوة ولكن بشروطنا نحن ليس بشروطه هو , اخذتنا سيارته الي المنزل هناك وجدنا الصديق عباس اباسعيد الذي كان يعمل مستشارا في اليونسكو بأدارة الدكتور محي الدين صابر, وكذا السفير عبد الله الحسن ومسئول الامن في السفارة, كان الحاردلو مضطربا ومتوجسا طيلة ساعات العشاء وكان الحديث مرتبكا جدا يبتدره المضيف بالحديث عن الشعر ثم نجد انفسنا نقترب من السياسة فيتدخل ليحرفنا الي موضوع اخر.
في بداية الجلسة طلب السفير من الحاردلو ان يقدمنا له , فقدمت نفسي صحافيا يعمل بجريدة الراية القطرية , وقدم عمر السوري نفسه امينا مساعدا في اتحاد الصحفيين العرب , وقدم ادريس عوض الكريم نفسه صحافيا حرا ومترجما , فعاد السفير يستفسر ادريس مرة اخري صحافى في اي جريدة ؟ ومترجما في اي جهة ؟ فغضب ادريس لتحقيق السفير معه , وفجر قنبلته عندما قال له , انا اسمي ادريس عوض الكريم وعضو في الحزب الشيوعي السوداني , وكنت رئيسا لاتحاد طلاب جامعة القاهرة فرع الخرطوم , وهارب من النميرى واعمل الان مناضلا مع الجبهة الشعبية التي زعيمها الشيوعي الكبير جورج حبش , هل ارتحت ام ازيدك من الشعر بيت؟, وهنا كاد قلب الحاردلو ان يسقط تحت قدميه فغادر السفير ومسئول الامن حفل العشاء وضحكنا يومها ضحكا كثيرا ولم يتصل بنا الحاردلو مرة اخري حتي غادرنا تونس .
تفرقت بنا السبل وهاجرت انا الي الخليج وعاد الحاردلو الي السودان ليختار سفيرا في اليمن وبعد سقوط النميري في انتفاضة ابريل دخل الحاردلو السفير في معركة مع الجبهجية الذين كانو يسيطرون علي الجالية السودانية في اليمن حتي اطاح بهم منها , ونشرت ذلك الصحف
ومن تلك الحادثة وضع الاسلاميون الحاردلو في راسهم حتي انتقموا منه بفصله من الخارجية بعد نجاح انقلابهم المشئوم
استمر الحاردلو سفير للسودان في صنعاء حتي قيام انقلاب يوليو 89 الذي قاده الاخوان المسلمون ولم يتأن حتي يتبين من هم وراء الانقلاب ,فعقد علي الفور مؤتمرا صحفيا أيد فيه النظام الجديد , ومع ذلك كان هو أول ضحيه للنظام الذي أيده حيث شملته عملية التطهير التي اطلق عليها الصالح العام, وجد الحاردلو نفسه وحيدا لايجد من يحدثه فقرر الانضمام للمعارضة , وشرع في كتابة اشعار مسجلة بصوته في الكاسيت يهاجم فيها رموز النظام , لا زلت احتفظ ببعض منها , كان يكتب البيانات والقصائد يرسلها للسودانيين في المهجر وداوم علي هذا الحال ورفض الرجوع الي السودان فمنحه الرئيس علي عبد الله صالح الجواز اليمني وأمر بأن يكون الحاردلو ضيفا بكامل امتيازاته علي رئاسة الجمهورية طالما بقي في اليمن .
انهمك الحاردلو في معارضة النظام سلاحه الشعر حتي وقعت حادثة ارجاع اسرته من مطار الخرطوم ومنعها السفر الي اليمن للحاق به وقفنا كلنا معه , ونشرنا القصة في عدد من الصحف الخليجية ,عبرت الحادثة البحار , ووصلت الي منظمات حقوق الانسان حتي مجلس العموم البريطاني اثار قضية اسرة الحاردلو وطالب الحكومة السودانية بالافراج عن الاسرة ,ومن جانبه قام الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح متوسطا لدي السلطات السودانية من أجل السماح للاسرة بالمجيء الي اليمن, كان الحاردلو يتصل بي يوميا ويبلغني خطوة بخطوة بما جري وما قد يجري, كنت اطمأنه بأن الفرج قريب وما عليه الا الصبر ,غير ان المشهد تغير فجأة وحملت وكالة الصحافة خبر ا عاجلا يقول السفير السوداني السابق في اليمن ينفي انضمامه الي المعارضة ويقرر العودة الي السودان, سارعت في الاتصال بالحاردلو للتأكد من الخبر ولكن هاتفه كان مغلقا طوال الوقت, بعد فترة حملت الانباء ان الحاردلو عاد الي السودان في رفقة مسئول حكومى كبير هو صديقه 00000 بعد ان وعده بأنه سيقنع المسئولين بأعادته مرة اخري الي وزارة الخارجية , وهكذا توزع الراحل بين المعارضة والتأييد حتي اصيب بمرض الفشل الكلوي .
جاء الحاردلو الي الدوحة في عام2004 لأجراء عملية نقل كليه اليه علي يد النطاسي البارع الدكتور الفاضل الملك , شكلنا له لجنة خاصة بمبادرة من صديقه السفير السابق احمد يوسف التني الذي كان علي اتصال يومي به في السودان , عكفت تلك اللجنة علي التحضير لأستقبال الشاعر الكبير وجري استقباله في المطار كأحسن مايكون الاستقبال, انزل الحاردلو واسرته والمتبرع في شقة سكنية فاخرة ومن السعودية اتصل بنا السفير الراحل كمال احمد داؤد والذي ابلغنا بأن مكتب الامير طلال بن عبد العزيز تبرع للحاردلو بمائة الف ريال سعودى اسهاما في كلفة العملية اضافة الي حملة تبرع كبري انتظمت دول الخليج , السعودية والامارات , والكويت , والبحرين وسلطنة عمان وقطر , إلا رحم الله الحاردلو رحمة واسعة وغفر له وأسكنه الجنة وأنزل السكينة والصبر على أسرته وأهله وصحبه وانا لله وانا اليه راجعــــــــون ولا حول ولاقوة الا بالله
[email protected]