المؤتمر الوطني يستدرج الكل ليحْكُم بعقلية القطيع
إلى المؤتمرون في جوبا / بقلم حاج علي
إذا كانت هنالك من حسنةٍ واحدة لاتفاقية نيفاشا فهي أنها قد أتاحت الفرصة لأحزاب التجمع الوطني الديمقراطي وجميع القوى الأخرى المعارضِة أن تلتقي تحت سقف واحد داخل الفضاء السوداني من بعد طول غيابٍ وشتاتٍ وتفرق , لكن هنالك سؤالاً مُلحاً يطرح نفسه : هل أحسنت هذه الأحزاب والقوى السياسية هذا الوجود المطمئن نسبياً على الأقل ؟ وقبل أن ندخل في تضاعيف السؤال ومحاولة البحث عن الإجابة عليه دعونا نتوقف قليلاً عند حقبةٍ زمنية ليست بالقصيرة سبقت هذا الوجود الداخلي للأحزاب الذي أشرنا إليه أعلاه , فمنذ استيلاء البشير ومجلسه العسكري على السلطة مدعومين بالحركة الإسلامية بقيادة الترابي أو العكس وطوال عقدٍ ونصف أو يزيد أي لحظة توقيع اتفاقية نيفاشا , لم يكن هنالك من أحدٍ قد سلم من سيف الإنقاذ فالكل قد نال نصيبه من العذاب والتنكيل والتقتيل والتشريد والمصادرة و الإهانة وكل ألوان المعاناة المرة , أحزاباً وأفراداً معارضون , مثقفون وناشطون سياسيون , رجالاً ونساء , مدنيون وعسكريون , وبعبارة واحدة لم يكن هنالك من أحدٍ قد خرج سالماً من تلك التجربة , وفي نهاية المطاف فقد ارتد السلاح على مستخدميه أنفسهم فشهدنا وشهِد العالم كله ذلك الانقسام الإسلاموي المريع وذاك الخروج المُذل لشيخ الجماعة من السلطة , هذه اللوحة التراجيدية التي استعرضناها وقطعاً أن هنالك مآسيٍ بينية كثيرة تتخللها والتي لا يتسع المقال لسردها , منها على سبيل المثال التصفيات الغامضة لبعض أعضاء المجلس العسكري أنفسهم , وغير ذلك , فإننا لو تمعنا فيها جيداً وأعدنا قراءتها بصورةٍ مسؤولة ومنضبطة مستصحبين معنا السجل الدامي للإنقاذ في الجنوب وفي دارفور ـ فيما بعد وحتى تاريخه ـ وفي كل الأصقاع الأخرى المتقيحة الجراح وكذا الحال ملفات الفساد المالي والمصرفي وجميع أوجه القصور التنموي وغير ذلك , فإن ذلك كافٍ بأن ينضج عقلية الوليد الذي لم يبلغ الحلم ويجعله يحدد موقفاً واضحاً وصارماً تجاه لا إنسانية الإنقاذ ناهيك عن أن يشحذ ذلك فكر شيخِ سياسي بلغ من الكبر عتيا , وبعد هذا كانت ما يُعرف باتفاقية السلام الشامل وغض النظر عن الظروف العالمية والداخلية التي أدت إلى تمخضها وولادتها وغض النظر عن أوجه القصور التي تمت ملاحظتها فيما بعد بين طيات بنودها إلا أنها كانت برداً وسلاماً على الجميع , حكومةً ومعارضة , فالكل قد رحب بالحدث وانفرجت أساريره له , فالحكومة قد استردت أنفاسها التي حُبست عن التنفس الداخلي والخارجي واستطاعت أن تخرج بموجبها من طوق العزلة التي ضُربت عليها وإلى حد كبير خففت من حدة العقوبات التي أثقلت كاهلها وأعفتها ربما نهائياً من فاتورة حرب الجنوب التي هدت قواها البشرية والمادية , وأهم من كل ذلك فقد ساعدتها على كسر حاجز القطيعة الداخلية بينها وبين مواطنيها ففي هذا الجانب فقد نجح قياديو حزب المؤتمر الوطني في تحقيق ما فشل فيه الجميع بمن فيهم الحركة الشعبية هذا القادم الجديد والمحتفى بهلاله من بعد طول غياب , فبسيطرته على مفاتيح الإعلام وإمكانات الدولة استطاع حزب المؤتمر الوطني أن يلعب بجميع أوراق هذا الاتفاق لصالحه وأن يحوِّله باقتدار حسبما أراد إلى فتحٍ مُبين ويجعل منه بدراً وحُنين , ويصور قادته بأنهم أئمة مكرَّمين وأبطالاً خالدين ويوحي للجميع بأنهم كانوا وما زالوا وعلى مر التاريخ السياسي السوداني أحرص من غيرهم على وحدة وأمن هذا الوطن منذ أن بنا الله السماوات ورفع سمكها وسواها من بعد إذ أغْطَش ليلها وأخرج ضحاها , ولعله لم تكن السيطرة على أجهزة الإعلام والاستحواذ على موارد الدولة هما السببان الوحيدان في نجاح حزب المؤتمر الوطني في تنفيذ مهمته تلك على الرغم من أهميتهما القصوى بيد أن هنالك عامل أو عوامل أخرى ساعدت في ذلك منها أنه استطاع أن يقرأ كل الإرث التاريخي لتلك الأحزاب ويستنطقه ويمزجه بمخرجات الحاضر ويقدمه وصفة جديدة لمعالجة مشكلات الحكم الراهنة حسب رؤيته هو وحسبما يخدم توجهه , نذكر من ذلك مثالاً أو أمثلة حتى لا نكون مجردين , ففي ماضي التاريخ السياسي السوداني نجح المستعمر الإنجليزي ومن بعده الطائفية في السيطرة على البلاد وسوق الشعب لخدمة مصالحهما بتفعيل ما يُعرف بالإدارة الأهلية المعروفة وهي تلميع أسرة أو أُسر معينة لقبيلة ما وجعلها قيمةً على أمور دهماء ورجرجة الباقين من أفرادها , وعلى الرغم من الجوانب الإيجابية تاريخياً لهذه السياسة إلا أنه في هذا الإطار قد نشط حزب المؤتمر الوطني في إذكاء روح العصبيات القبلية التي لم تكن طافحةً بهذا الشكل حتى أوان المستعمر والسعي لضرب القبائل بعضها ببعض ـ مثلما ما يحدث في الجنوب الآن ـ ومثل ذلك وأسوأ ما حدث ويحدث في دارفور ـ عرب وزرقة كما تجري هذه العبارة على لسان الرئيس ـ وكذا الحال في جنوب كردفان ـ مسيرية ودينكا ـ وغيرها من المناطق , كل هذه العوامل وإن كانت سالبة فقد استطاع هذا الحزب الأخطبوطي أن يمزجها ويألف بينها بل أخطر من هذا هو أنه استطاع أن يقنع قادة تلك الأحزاب ـ كلهم أو بعضٍ منهم ـ من التجمع حوله ليقودهم كيف يشاء ويوجه مسارهم أنى أراد وإشراكهم فيما ينفذ من جرائم في حق الشعب بل نجح في أن يستكتبهم مواثيق وعهود على ذلك على شاكلة التراضي بينه وبين الأمة وغير ذلك , ولعلنا باستعراضنا لهذه اللوحة السوداوية للواقع نكون قد اقتربنا من الإجابة على السؤال الذي استهللنا به هذا المقال , وهو هل أحسنت تلك الأحزاب وجودها داخل فضاء هذا الوطن المترامي الأطراف ؟ وهذا بالطبع سيعيدنا مرة أخر
ى لما استعرضناه آنفاً من المشكلات الماضية والراهنة وإلى أي حد كانت مواقف تلك الأحزاب حيالها ؟ وحيث أننا لسنا في حاجةٍ لأن نكرر أنفسنا فإننا سوف نختتم مقالنا بتساؤلات في صيغة المستقبل لا الماضي ولا الحاضر إذ أن ما فرطت فيه تلك الأحزاب من فرصٍ فائتة لانتشال هذا الشعب مما اكتنفته من مصائب استطالت لعقدين من الزمان ظل يوجه مسار الأشياء فيها حزبٌ واحد هو المؤتمر الوطني والبقية أما متفرجون أو لائذون بالصمت أو مشتركون فيما يمارس من فظائع بوصفهم شركاء في السلطة أو بينهم وبين حزبها ميثاق وعهد كما ذكرنا , الأمر الذي يدفعنا للقول أن تلك الأحزاب لم تكن قد أحسنت فرصة وجودها فحسب بل قد أساءت إليها وإلى ذلك الظرف التاريخي الذي أتى بها للساحة السياسية من جديد بعد أن تم تجريدها من كل غالٍ ونفيس , وهنا نأتي إلى اللحظة الفاصلة والمهمة في هذا الحوار, وهي هل ستحسن تلك الأحزاب التصرف فيما تبقى من زمن لتتدارك قارب النجاة الذي قد أزفت ساعته ؟ ففي المرحلة المقبلة ستوضع كل مشكلات البلاد بصيغة : ” خياران اثنان لا ثالث لهما ” : فالجنوب إما انفصال ليكوِّن دولته المستقلة أو وحدة , وحكم الشمال إما أن يفوز به حزب المؤتمر الوطني لتستمر المعاناة كما كانت عليه وإما أن تنضج الأحزاب وترفع وتيرة حسها وتنتزع الحكم وتعمل من ثم لرد حقوق الشعب التي انتهكت من زمرة المؤتمر الوطني خلال عشرين عامٍ حسوما , ودارفور إما تصيخ الآذان لتسمع صوتها أو أن يستمر الحريق إلى الأبد , ففي كل هذه الحالات وجميع مفاصل المشكل السوداني لا يوجد خيار ثالث وبوضوح العبارة لا وجود لأية صيغة للتصالح مع المؤتمر الوطني , لأنه ليس هنالك من أحدٍ مفوض للتنازل من حق الشعب السوداني وإن تنازل من حقه كحزب وإلا سيكون اللهيب مستمراً والحروب نيرانها مستعرة في دارفور أو في الجنوب أو في جهات أخرى من البلاد ستكشف عنها الأيام المقبلة , فلن يكون هنالك استقرار ولن تكون هنالك وحدة ما دام المؤتمر الوطني هو المسيطر وما دامت عقلية القطيع هي السائدة والمهيمنة …
حاج علي ـSunday, September 27, 2009