ابراهيم سليمان
صوت من الهامش
العنصرية من اشّد الأمراض فتكاً بالمجتمعات، وحسب الإحصائيات الدولية، فإن عدد ضحايا العنصرية في العالم، اكثر من عدد ضحايا الإرهاب، و العنصرية تفسد المزاج العام، وتعطل الشراكة في بناء الأوطان، وهي سلوك بشري قديم قدم الإنسانية على كوكب الأرض عددٌ من الأبحاث المنشورة، تُظهر أن الأشخاص أحيانًا يستخدمون العنصرية، ويلجؤون للسلوك المُؤذي، لتعزيز احترامهم لأنفسهم، وثبت عندما يُتعَّرض تقدير الشخص لذاته للخطر، يتخذ سلوك استباقي مثل العنصرية لاُستعادة ثقته وتقديره لذاته، أي ان الإنسان العنصري، يشعر بتهديد على بقائه من قبل الآخرين،. والبعض يلجأ لهذا التصرف المشين، لتصوير بأن المجموعة التي ينتمي إليها مهمةٌ ومؤثرةٌ، ولا سبيل لذلك إلا بطريقةٍ واحدةٍ وهي احتقار المجموعات الأخرى. ولهذا التصور التفضيلي، استحقاقات زائفة على حساب حقوق الآخرين.
للعنصرية اوجه متعدة، هناك عنصرية ناعمة، لسنا بصددها في هذا المقال، الذي نرّكز فيه على نماذج لأقبح اوجهها، والتي بدأت تظهر بصورة غير معهودة في الآونة الاخيرة، وهو التمييز على أساس العرق، والذي بات يظهر على السطح عبر ثقافة العنف اللفظي.
كلما وعى الشعب السوداني بحقوقه، وارتفعت اصوات المهمشين، لفك هذا (التهويش) المزمن لمقدرات البلاد، وتحرير رهنها لهذه الفئة الأثنية المتعالية، ارتفعت وتيرة الجرائم العنصرية، وانتشر العنف اللفظي، من اعلى هرم اجهزة الدولة، الراعي لهذا الاستعلاء العرقي، وهو امر مؤسف ومقلق، أي ان العنصري، كحيوان الضربان، يكثر من نثر الغازات النتنة، كلما حوصر، إلا أن مثل هذه الغازات، لا تمنع الملاحقة، متى ما كان الجرم كبير، واصرّ الجاني على الاعتداء المتكرر.
هنالك حقيقة لا يجب اغفالها، وهي أن وسائل التواصل الاجتماعي، وفرت منصات للتعبير عن المشاعر العرقية وبث الكراهية بشكل أكبر، وزادت من انتشار وتيرة العنصرية، والتي تشكل عاهات في جسد الامة السودانية، كلفتنا حتى الآن فصل جنوبنا الحبيب، دون أن يرعوي احد من تزايد وتيرته.
لدينا في السنوات الأخيرة، عدة جرائم عنصرية مشهورة ومشينة، لم نسمع لها مثيل قبل مجيء منظومة الإنقاذ وافلاس قياداتها، وفضح افكارها، دعنا نتأمل الدوافع المباشرة وغير المباشرة لملابسات كل حدث، ونتعّرف على الخلفيات الأثنية للجناة.
اقبح هذه الجرائم واشهرها حديث رأس النظام عن “الغرباوية” والشاهد فيه، اكبر رأس، واعلى مرجعية اسلامية وإنقاذيه، الراحل شيخ الترابي، أي أن فرص دحض الجاني للتهمة ضعيفة للغاية، بالنسبة لضمير الشارع السوداني، والإطار الزمني الذي ارتكب فيه رأس النظام المدعو عمر البشير هذا الجرم الجماعي المشين، تكالب الاتهامات التي وجهت له، والتي ادت إلى صدور مذكرة توقيفه من قبل الـ ICC، أي أن المجرم تلفّظ بتلك العبارة، بحثاً عن تقديره لذاته، وأملاً في استعادة احترامه المفقود لنفسه، ودون شك خلال تلك الفترة، كان البشير في اضعف حالته، وأنه كان ولا يزال يشعر بالخطر المحدّق بعرشه، من قبل الضحايا.
مسرح الحدث لجريمة عنصرية اخرى، هي محطة وقود بمدنية سنار، وكانت في يونيو من هذا العام 2018م المعتدي فيه، المدعو عثمان الزين، وصفته نائب امين الحركة الإسلامية بالمدينة، ووقائع الحدث كما يلي: تقدم الضحية المواطن السوداني، الحاج رحال، بصفته عامل محطة الوقود مكان الحدث، بإيقاف الجاني، دون سابق معرفة، من تخطي صف المنتظرين لخدمة المحطة، صعد الجاني علي عربته (بقصد الإشهار)، وخاطب الناس وقال “انه يكره أشد ما يكره النوبة، وقال متي أتى النوبة من الكراكير ليحكمونا، وفي رواية اخري ليتسلّطوا علينا، ثم واصل الإهانة والتحقير قائلا: انه بإمكانه أن يدهس الحاج رحال تيه بسيارته في لحظة لأن رحال لا يساوى شيئا وليس له قيمة وانّ شركته يمكنها دفع القيمة أن وجدت”
هنا ايضا نجد أنّ الجاني، صاحب السلطة والثروة (مدير الشركة الإسلامية التعاونية) لجأ للعنصرية، عندما احسّ بعدم تقدير، حسب احساسه الذاتي وتقييمه لنفسه، وفقد احترامه لذاته بمحاولته تخطي الصفوف، ومنعه من قِبَل عامل عادي، وعندما يقول (متي أتى النوبة من الكراكير ليحكمونا او ليتسلّطوا علينا) هنا قد افصح عن مكامن الخطر، على التراتيبية الاجتماعية في مخيلته، والذي يصّور له أنه سيد على الآخرين. مع ملاحظة أن “يحكمونا” هذه متعلقة بمحطة وقود في منطقة هامشية، وليس داخل القصر الرئاسي؟
احدث جريمة عنصرية من هذه الشاكلة، وقعت شهر نوفمبر الماضي 2018م، ومسرحها فضاء اسفيري (مجموعة واتساب)، والجاني فيها المدعو عمر تاتاي، وصفته نائب سفير السودان لدى الكويت، والمجني عليه السيد أزهري الزاكي القيادي البارز بالحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل، ووقائع الجريمة نعت الجاني المجني عليه بأنه (فلاتي ساكت ولا علاقة له بنهر النيل) أثناء مشادات كلامية بينهما.
ومن الواضح انّ المعتدي فقد المنطق، وفقد الاحترام، ووجد نفسه محاصر، ولا انفكاك له إلا بسلاح العنصرية، لدفع الخطر المحدّق بذاته.
جريمة اخرى مسرحها مدينة الرياض، وقعت عام 2008م اثناء لقاء (الجاني) برابطة ابناء الشمالية بالمملكة العربية السعودية، خلال ذلك اللقاء التنويري، تحدَّث عبد الرحيم محمد حسين، وصفته وزير دفاع نظام الإنقاذ، تحدث غاضبا من المجني عليهم (اهالي غرب السودان بالجملة)، وبدون مناسبة، سوى الكراهية الدفينة، حيث قال رداً على تساؤل: “اما مسألة إستجلاب الحكومة لخمسة ألف مصري وتوطينهم في الشمالية غير صحيح وحتى لو إفترضنا أنه صحيح أيه المشكلة؟ ما ياهو غرب السودان فيهو ثمانية مليون من غرب افريقيا .. أيهما أفضل ؟”
عبد الرحيم حسين هذا، ما نظن أنه كان محاصراً او مضطراً لهذه المفاضلة الأثنية ذات المضمون العنصري العنيف، لو لا أنّ كل إناءٍ بما فيه ينضح. وبالطبع بحديثه عن الثمانية ملايين “غرّابي”، لم يستثنِ العنصري عبد الرحيم حسين، مواطن واحد من اهالي دارفور من التحقير والاستعلاء والاتهام بعدم الانتماء الأصيل لتراب السودان. اذ أنّ اجمالي تعداد سكان ولايات دارفور الكبرى، وقتها اقل بقليل من هذا العدد.
ناصر الطيب القيادي بالمؤتمر الوطني تجنى في سبتمبر من هذا العام 2018م على الصحفي عبد القادر باكاش، من خلال تسجيل صوتي نُشر على وسائل التواصل الاجتماعي، احتوى على عنف لفظي ضد قبيلته، وتهديد صريح بالقتل مع سبق الإصرار، على خلفية مقال نشره الأخير، انتقد فيه التشكيل الوزاري الأخير بولاية البحر الأحمر، خصوصاً ما يتعلق بتعيين أشخاص من خارج الولاية في وظائف وزارية وإدارية، وقد اشار في مقاله إلى ولايتيّ الشمالية ونهر النيل.
من الواضح أن الجاني، إستشعر بالخطر على الامتيازات الوظيفية المتوارث لعشيرته، لذلك لم يكتفِ بسلاح العنصرية وازدراء قبيلة المجني عليه، بل هدده جدياً بالقتل.
في اكتوبر 2017م اتهمت نائبة رئيس المجلس الوطني عائشة محمد صالح رئيس لجنة الصناعة بالبرلمان عبد الله علي مسار بإثارة العنصرية داخل جلسات المجلس الوطني ضد سكان الولاية الشمالية، وقالت انّ مسار كان والياً في الشمال ويعلم البؤس الذي يعيشه مواطن ولايات الشمال.
هذا الاتهام لا يمكن تصنيفه ضمن العنف اللفظي الذي نحن بصدده، ولذات السبب استبعدنا شيخ العنصريين الطيب مصطفي.
وفي سبتمبر عام 2017م قال لواء طيار م/عبد الله صافي النور: “بي لونك دا ما بتقدر تخش دارفور”، وصفة الجاني قيادي في حزب المؤتمر الوطني، ووالي سابق لشمال دارفور، موجهاً كلامه إلي ساطع الحاج (المجني عليه)، القيادي بتحالف قوى الاجماع الوطني المعارض، رافضا الاعتذار له، ومسرح الجريمة برنامج الميدان الشرقي الذي تبثه قناة أم درمان.
يبدو ان صافي النور، فقد احترامه لذاته، ووجد نفسه محاصراً من السيد ساطع، والذي فيما يبدو في نظره “حلبي”، غير مرغوب وسط اهل دارفور. إلا ان كلام صافي النور هذا، شاذ ومعزول ومدهش حتى بالنسبة لأهالي دارفور، الذين بين الأصلاء منهم من هو اكثر بياضاً وسطوعاً من ساطع الحاج.
وباستثناء صافي النور هذا، يتضح لنا أن جميع العنصريين، الذين يمارسون العنف اللفظي، ينحدرون من الوسط والشمال النيلي، والقاسم المشترك بينهم جميعا، انهم قياديون بحزب المؤتمر الوطني.
كدنا نظلم حزب المؤتمر الوطني، ونستسلم لهذه الخلاصة، لو لم يصدمنا الدكتور والمفكر حيدر ابراهيم، والدكتور والمفكر عبدالله على إبراهيم، والاستاذ السر قدور والصحفي محمد محمد خير، وآخرين كثر خارج حزب المؤتمر والوطني، هم كذلك خاضوا في هذا المستنقع الآسن والنتن، ليكتمل المشهد، ويمكننا القول أن الغالبية العظمي من الذين يمارسون الاستعلاء العرقي ويستخدمون العنف اللفظي ضد كافة مكونات الشعب السودان، ينحدرون من الوسط والشمال النيلي، وهذا امر مفروغ منه بالشواهد والأدلة والواقع المعاش.
ولكن بالطبع دائماً التعميم مخل وغير منصف، ولا شك أنّ هنالك من ابناء الشمال والوسط النيلي، هم اناس محترمون، ويتمتعون بحس قومي متقدم وراقِ، إلا أن هؤلاء القلة العنصريين، محسوبين عليهم، سيما في ظل السلبية والصمت المطّبق من قبل كياناتهم الاجتماعية والأثنية، ازاء الاستعلاء العرقي، والمجاهرة بالتميّز والتحقير العنيف، والذي لم يسلم منه مكون من مكونات المجتمع السوداني غرباً وجنوباً وشرقا.
وإن أضفنا هذا النوع من التفرقة العرقية، الي الاستعلاء والعنصرية الناعمة والممنهجة التي تمارسها الحكومات المتعاقبة منذ فجر الاستقلال، والتي وصلت ذروتها في عهد حكم الإسلامين، والمتمثلة في احتكار الثروة والسطلة، والتي ما كان لها أن تصمد وتتعاظم بدون الدعم والمباركة من المجتمعات المنتفعة من تبعات هذا التعالي العرقي، ومردود العنف اللفظي.
إنكار هذا الواقع المؤلم غير مجدي، الأفضل الإقرار به، ومجابهته كما فعل الماليزيون، بكل شجاعة وشفافية. فماليزيا والتي اصبحت مثلا يحتذى بها تنموياً في الآونة الأخيرة، وهي دولة كالسودان متعددة الأعراق، وغنية بالموارد البشرية والطبيعية، وقد عانت مثلنا من توترات تصّنف عنصرية عرقية، ففي عام ٢٠١٣م كونت السلطات الماليزية مجلساً استشارياً للوحدة الوطنية عرف اختصاراً nucc إدراكاً منها لخطورة التمييز العنصري واضرارها على المجتمع، فبعد عقود من التجاهل ومحاولة الإنكار، اقرّت ماليزيا رسمياً بطغيان وسيطرة مزاج العرق الملايوي على مفاصل الدولة، والذي اعتبره رئيس الوزراء(حينه) محاتير محمد، أحد اهم العوائق في مشوار مواصلة التنمية الشاملة، بما يكرسه في المخيلة من أفضلية العرق الملايوي على بقية الأجناس الاخرى الهندية والصينية. اهم ما جاء في توصيات هذا المجلس الاستشاري، استخدام العقوبات كرادع للأفراد والسياسيين الذين يصدرون أية بيانات عنصرية.
وتعد مشكلة التعدد العرقي واحدة من اصعب التحديات التي واجهت ماليزية خلال مشوارها التنموي وتحقيق الاستقرار السياسي، فما زال شعب الملايو وهم السكان الاصليين الذين يمثلون ثلاثة ارباع المجتمع يعانون من تدني وانخفاض في مستوي المعيشة، بينما الصينيين والهنود الذين يمثلون ربع السكان، يمتلكون معظم ثروات البلاد، الاّ ان تراكم الممارسة الديمقراطية المنتظمة، ساهمت في تخفيف حدة التوتر العرقي، وعملت على تجسير الفوارق وخلق التوازن الاثني.
بالإضافة للممارسة الديمقراطية الراقية، هنالك عامل آخر، ساهم في خلق التوازن في الصراع العرقي الماليزي، وهو أن الأغلبية الملايوية، مسيطرة على السلطة، والأقلية من الصينين والهنود ممسكون بتلابيب الثروة، وقدر ما حاولت السلطات منح شعب الملايو امتيازات استثمارية، لرفع مستوياتهم المعيشية، فشلوا بسبب عدم إلمامهم بفنون إدارة المال.
عندنا في السوادان، السلطة والثروة مكّدسة في ايدي الأقلية، وتركوا للآخرين الفتات وحمل السلاح! في ظل حكومات عسكرية استبدادية، فالذين يتحدثون عن فرص الحقيقة والمصالحة، لابد أن يتحلوا بالشجاعة الكافية للاعتراف بهذا الواقع المغلوط قبل كل شيء.
وبلا شك انّ ابناء الوسط والشمال النيلي، لن يعدموا ما يقولوه ازاء هذا الاستعلاء العرقي والعنصرية المستفحلة، وها هو الدكتور حيدر ابراهيم علي يقول في مقالته المعنونة (خلافات الحركة الشعبية: حرب الهامش ضد الهامش وتهافت شعار السودان الجديد) المنشورة في يونيو 2017م، يقول “لو استدعينا التاريخ الابعد نجد أن ابناء الهامش هم الذين حكموا السودان من عام 1885 وحتى عام1898 فأذاقوا القبائل النيلية صنوفا من العسف والقمع والظلم”.
ومعنى هذا، انّ عنصريتهم ما هي إلا عنصرية مضادة، وأنه مبرر ضمني للضحايا أن يمارسوا ذات السلوك ضد الجناة، متى ما تحوّل ميزان القوى لصالحهم، وجنس هذا الكلام لا يمكن ان يصدر من إنسان عاقل، ناهيك من يدعي المعرفة ويصف نفسه بمفكر !
وإذا صرفنا النظر عن السياق الذي عسف فيه خليفة المهدي بأبناء الشمال النيلي، وهو المحسوب على اهل الغرب (اهل الهامش)، حسب زعم وتوصيف د. حيدر، فما ذنب اهل الجنوب والشرق؟
الاعتراف بهذه الممارسة المشينة، قد يطفئ غلواء نزعة التشفي التي تمور في صدور الكثيرين من ابناء ضحايا العنصرية البغيضة والاستعلاء العرقي الصارخ، ومعلوم بالضرورة، أنّ التوبة مقبولة بشرط ان تكون قبل الغرغرة.
للإطلاع على المقالات السابقة:
http://suitminelhamish.blogspot.co.uk