العقد الاجتماعي الطريق إلى حل المعضلة السودانية
المقدمة:
الحالة التي وصل إليها السودان اليوم تجعلنا نقول أننا في السودان لا نجيد قراءة دروس التاريخ القريب وبالتالي نفتقر لقاعدة نموذج تماسك الوحدة. لهذا نود أن نعيد إلى الأذهان دروس الماضي وننبه إلى ما قادت إليه الأحداث التاريخية في الماضي القريب من نتائج مؤلمة، ومن بعد هل ثمة حلول في الأفق يمكن أن تنقذ البلد من الأزمة المفتعلة التي هو فيها؟
بدايةً قد تعني الدولة في العرف الدولي، بأنها الجسم الإعتباري الذي يجمع عناصر الأقليم (الرقعة الجغرافية المعترف بها دولياً)، الشعب، الحكومة، المعارضة، الإعلام. بهذا المفهوم نشأت الدولة السودانية بحدودها الجغرافية الحالية وبهذا الإسم كصنيعة للاستعمار في العام 1820م (بما فيها جمهورية جنوب السودان التي انفصلت في 9/7/2011م). فالدولة السودانية، هي نتاج لإخضاع الممالك والسلطنات بقوة السلاح – كانت دولاً قائمة بذاتها – وضمها في قطر واحد، ومنذ ذلك الوقت حمل إسم السودان. ولم يكتمل رسم حدود هذه الدولة إلا في العام 1932م عندما تمكنت إدارة السودان البريطانية من أن تبسط سيطرتها التامة على قبائل الدينكا والنوير والتبوسا في الجنوب.
الصراع بين عناصر الدولة الواحدة:
منذ نشأة الدولة السودانية، ظهرت بوادر الصراع بين مكونات الدولة المنشأة حديثاً، تمثلت في أول عهدها بعدم رضى شعوب الدولة الحديثة عن المُستعمِر (أي حكومة المستعمر). ومع وتيرة الأحداث المتلاحقة، تطور الصراع ليشمل المركز ضد الأطراف. وكمبدأ عام أو عرف دولي، أن يكون هناك صراع مُحكم، بين الحكومة والمعارضة في كيفية إدارة شئون الدولة، لكن الصراع الدائر اليوم بين مكونات الدولة السودانية، هو في مجمله صراع الثقافات وسياسات الهيمنة، حول إعادة تأسيس الدولة لتستوعب كل مفارقات الدولة الحديثة، وهذا شيئ غير طبيعي، يجعلنا نقول أن بناء الدولة السودانية لم يكتمل بعد.
في هذا المنعطف يمكن أن نسوق بعض من الأحداث والسياسات المبرمجة، التي أدت إلى خلق هذه الصراعات وتأجيجها على مر العقود الماضية، وكيف أن القائمين على أمر إدارة البلاد قد تجاهلوا هذه الأحداث المدمرة، بل في مواقع أخرى سعوا إلى صناعتها. في البدء يمكن أن نقول أن الاستعمار قد ساهم بقدر كبير في صناعة هذه الصراعات. فدخول الاستعمار من بوابة السودان الشمالية أدى إلى تركيز التعليم والتدريب الحديث لإدارة الدولة، في الشمال النيلي، أضف إلى ذلك سياسة المناطق المقفولة التي حرمت مناطق واسعة من التعليم والإنفتاح على العالم الخارجي. ويدل على ذلك أنه حتى العام 1945م لم تتخذ حكومة السودان الاستعمارية رأياً قاطعاً، حول مصير جنوب السودان. هل يُلحق بالشمال أم يُضم إلى إحدى دول شرق أفريقيا؟
ولتعزيز ما ذهبنا إليه، يجدر بنا أن نسرد عدداً من الأحداث التاريخية، التي توضح لنا كيف أن الصراع بين مكونات الدولة السودانية بدأ سلمياً ثمّ تطور عسكرياً وكيف أن النقيضين – المطلب والرفض، قد أوصلا القطر السوداني بأن ينشطر إلى قطرين مستقلين. وتأسيساً لتوثيق بعض االسياسات نجد أن من ضمن الأحداث الموثقة، انعقاد مؤتمر جوبا الأول في 12 يونيو 1947م. الذي يعتبر أول تجمع سياسي جامع تشارك فيه ألوان الطيف الجنوبي في أرض الجنوب. كان من ضمن مطالب الجنوبيين في هذا المؤتمر، المطالبة بالنظام الفيدرالي في إطار السودان الواحد، ولكن تشدد الشماليون في رفض هذا الطلب، مستخدمين في ذلك أسلوب المخادعة، وفي ذات الوقت يبدو أن نفوذ نخبة الشمال النيلي بدأ ينمو ويقوى في إدارة شئون البلد. وعندما جاءت مفاوضات الحكم الذاتي والاستقلال وتقرير المصير في العام 1953م والتي كانت بين الشماليين والبريطانيين والمصريين لم يحضرها أحد من الجنوب، لذا خلت من أي ضمانات تمسك بها الجنوبيون في مؤتمر جوبا 1947م.
ثم شُكلت لجنة لتعديل الدستور في 29 مارس 1951م، وكان من ضمن أعضائها إبراهيم بدري الذي تحدث عن الوضع في الجنوب، فقال أن التهميش لا يشمل الجنوب فقط، بل أيضاً سكان مناطق أخرى من السودان، من بينهم سكان جنوب الفونج وبعض سكان دارفور وجبال النوبة بمديرية كردفان. وبعد أن عرف مناطق الهامش بهذا الشكل، تسآءل “أي ضمانات وضعنا من أجل استمرار الإستقرار وكفالة الحريات وحق تقرير المصير لأولئك الناس مع العلم بأن الرابط الوحيد بيننا وبينهم هو الفتح المصري للسودان؟” ومنذ ذاك التاريخ لم يجد من يستجيب لندائه الوطني هذا، مما يدل على تعمد النخب الحاكمة في إقصاء وتهميش الأطراف.
في 20 فبراير 1954م عين الحاكم العام للسودان أعضاء لجنة السودنة لم يكن من بينهم جنوبي. وعندما تمت إجراءات السودنة، كان نصيب الجنوب ست (6) وظائف فقط من بين أكثر من 800 وظيفة تمت سودنتها. وأرفع وظيفة تقلدها الجنوبيون، كانت برتبة مساعد مفتش. ثم جاء قرار تقرير المصير (الجلاء) من البرلمان في أغسطس 1955م والذي إشترط فيه الجنوبيون للتصويت عليه، بقيام نظام فيدرالي يساير روح مؤتمر جوبا وبالطبع حصلت خديعة أخرى. تبع ذلك إجازة الدستور المؤقت في جلسة مشتركة لمجلسي النواب والشيوخ في 31 ديسمبر 1955م الذي خلا أيضاً من ذكر الفيدرالية.
تكرار نقض العهود هذا، قاد إلى تمرد سريتين من الفرقة الإستوائية في توريت في 18 أغسطس 1955م، ويبدو أن الشرارة التي أدت إلى إنطلاقة الثورة المسلحة، هي الأوامر التي أعطيت للبلك رقم 2 بالسفر إلى الخرطوم للمشاركة في تكوين حامية للخرطوم، بعد جلاء القوات المصرية والبريطانية. لكن تعتبر خيبة أمل الجنوبيين من نتائج السودنة والخوف من سيطرة الشماليين، من أقوى أسباب التمرد. وبالرغم من أن الصراع السلمي قد تطور إلى ثورة مسلحة، لا تجد مطالب الجنوبيين وعلى رأسها النظام الفيدرالي أية استجابة، لهذا لم يرد في مشروع دستور سنة 1958م أي نص يحدد العلاقة بين المركز والإقليم. وخيبة الأمل هذه قادت عضو البرلمان فرانكو وول قرنق أن يرفض مشروع دستور سنة 1958م، وقال “إننا نقف الآن على شفا حفرة، وموضوع الفدريشن موضوع حساس. وإذا لم يُستجب له فلربما يطلب الجنوبيون أشياء أخرى لم تكن هناك حاجة لها”. وبعد عقد كامل من الزمان، يعيد مولانا/أبيل ألير نفس رفض الجنوبيين لمشروع آخر، هو دستور سنة 1968م، ويصفه بأنه قائم على التفرقة الدينية والعنصرية وقال “أن مشروع الدستور ليس مقبولاً للجنوب لأنه يفرق بين المواطنين على أساس الدين والعنصر، فهو دستور إسلامي لأمة عربية”.
كانت وتيرة الصراع بين المركز والهامش تسير أيضاً في أماكن أخرى من السودان وبأحجام مختلفة. ففي دارفور، لم تقم المقاومة ضد المركز على أساس فكر سياسي مركزي موحد، كما كان الحال في الجنوب، على النحو الذي رأيناه في الفقرات السابقة. ففي الجنوب تأسست المقاومة على أيديولجية الحكم الفيدرالي أو الانفصال. لذا سنلاحظ لاحقاً أن منهجية الصراع في دارفور، كانت غير منسقة. فتارةً ثورات مسلحة محدودة، وتارةً أخرى انتفاضات شعبية أو مقاومات سلمية لا يجمع بينها هدف محدد، وهكذا دواليك، إلى أن استقرت الآن في الكفاح المسلح، وبهدف شبه متفق عليه. و أيضاً من المفارقات بين الحالتين، وجود تباعد زمني في تفاعلات المقاومة الدارفورية، مقارنةً بالتواصل الزمني السلس في المقاومة الجنوبية. ومن هذا المنطلق يمكن أن نرصد بعض الأحداث السياسية في دارفور، التي كانت تعبر عن الصراع السياسي ورفض هيمنة المركز على الإقليم. إبتداءً تنصل السلطان على دينار عن الاتفاق الذي تمّ بين دولته وحكومة المستعمر البريطاني آنذاك في السودان، مما أدى إلى غزو سلطنة دارفور في العام 1916م وضمها قسراً للسودان. ومنذ ذاك الوقت قامت عدة ثورات ضد الوجود الأجنبي، منها في فترة الاستعمار، ثورة الفقيه/عبد الله محمد إدريس السُحيني في 26 سبتمبر 1921م في مدينة نيالا، والتي أُخمدت في حينها وقتل قائدها في 4 أكتوبر 1921م. ثم جاء حرق العلم البريطاني في الفاشر (أبو زكريا) حاضرة دارفور في العام 1952م. وحسب علمي المتواضع لم أجد ما يثبت أن مثل هذا الفعل قد تم في مكان آخر من مستعمرات بريطانيا العظمى في ذاك الزمان، مما يدل على شدة رفض أهل دارفور للمستعمر، ومن جانب آخر يدل على الفهم الحضاري المتقدم للتعبير عن الرفض.
أما في فترة ما بعد الاستقلال، فقد شهد إقليم دارفور الكثير من الإحتجاجات والثورات ضد المركز، كانت أولاها قيام تنظيم اللهيب الأحمر العام 1957م بعد سنة فقط من الاستقلال، تعبيراً عن عدم التنمية في المنطقة. وفي ظل الصحوة الإقليمية في السودان، قامت جبهة نهضة دارفور بقيادة أحمد إبراهيم دريج العام 1964م، وهي تنظيم سياسي في ثوب مطلبي، فكان من أهدافها الأساسية مطالبة المركز بتوفير الخدمات الضرورية وأعمال تنمية اقتصادية واجتماعية في الإقليم. لكن يظل وقف استيراد نواب البرلمان من الشمال من أهم إنجازاتها. فكثير من الناس يذكرون المقالة الصحفية في صحف الخرطوم، والتي إشتهرت بعنوان “أم كدادة ما ذنبها؟” وهذه المقالة، كانت عن الخدمات الاجتماعية المتردية في تلك الدائرة، التي فاز فيها عبد الله خليل وأصبح رئيساً لوزراء السودان في حكومة ما بعد الاستقلال، وهو لم يزرالمنطقة قط لا من قبل ولا من بعد الإنتخابات. ثمّ جاءت منظمة سوني العام 1966م وهو تنظيم تبنى نفس أهداف جبهة نهضة دارفور. ويشهد التاريخ أن قادتها كانوا يمثلون جل ألوان الطيف الدارفوري. هؤلاء القادة كانوا جنوداً في الجيش السوداني، الذين حاربوا في الجنوب وعادوا إلى دارفور وهم على قناعة تامة بأن حرب الجنوب لا هي أخلاقية ولا وطنية.
مرةً أخرى قامت ثورة الفاشر (أبو زكريا) العام 1981م، إحتجاجاً على تنصيب الطيب المرضي حاكماً لدارفور وهو ليس من أبناء دارفور بينما حكام بقية الأقاليم من أصل مناطقهم. إنتفاضة أهل دارفور في الخرطوم العام 1988م استنكاراً لدخول القوات الليبية والتشادية إلى السودان والإقتتال فيما بينها في أرض دارفور. ثورة الشهيد داود يحيى بولاد العام 1991م، والترابي يتوعد إسلاميي المناطق المهمشة. “إن الإسلاميين من القبائل الزنجية صاروا يعادون الحركة الإسلامية”. ثم يظهر الحدث التوثيقي الكبير وهو صدور الكتاب الأسود العام 2000م الذي يدل على تمرد إسلاميي دارفور ضد الجبهة القومية الإسلامية. وحديثاً قيام حركة تحرير دارفور في العام 2002م والتي غيرت أهدافها ومن ثم إسمها في العام 2003م إلى حركة تحرير السودان، كما قامت في نفس الوقت حركة العدل والمساواة السودانية في نهايات العام 2003م.
وبينما الأزمة السودانية في تفاقم مستمر في سبعينات القرن الماضي، لاحت في الأفق بادرة أمل لحل المعضلة السودانية عندما تم التوقيع على اتفاقية أديس أبابا في العام 1972م، بين حركة تحرير السودان وجناحها العسكري أنيانيا الأول وحكومة النميري، والتي بموجبها أصدر النميري قانوناً جعل من المديريات الجنوبية إقليماً واحداً يتمتع بالحكم الذاتي الإقليمي، بل صادق على دستور سنة 1973م العلماني، الذي يعتبر دستوراً قومياً إذا ما تم الإستفتاء عليه وقبوله من قبل كافة مكونات شعوب السودان. لكن نقض النميري هذا الدستور بنفسه بعد عقد واحد فقط من تصديقه له. ففي سبتمبر 1983م أصدرالنميري عدداً من القوانين المستمدة من الشريعة الإسلامية، من ضمنها تعديلات لأكثر من مائة من مواد الدستور الدائم لسنة 1973. تجعل هذه التعديلات من السودان جمهورية إسلامية وتسند السيادة لله وتؤسس حاكمية الشريعة الإسلامية، وذلك بالنص على أنها المصدر الأساسي للتشريع.
ففي ظل نكوص العهود المتكرر، خاصة عندما أصدر النميري قراراً بتفتيت إقليم الجنوب الواحد إلى ثلاثة أقاليم، قامت الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان، وأصدرت مانيفستو قومي في 31 يوليو 1983م وانطلقت بشعار السودان الجديد مبشرة الشعوب السودانية بميلاد برنامج قومي للمعارضة الوطنية. خاضت الحركة الشعبية سلسلة من المفاوضات مع كل الحكومات المتعاقبة منذ ميلادها. جرت هذه المفاوضات في مدن نيروبي وأديس أبابا وكمبالا وأبوجا، انتهت بتوقيع اتفاقية السلام الشامل في 9 يناير 2005م في منتجع نيفاشا (كينيا) بين الحركة الشعبية لتحرير السودان والحكومة السودانية (حزب المؤتمر الوطني). وبموجب هذه الاتفاقية جرى إستفتاء عام في الجنوب في فبراير 2011م أظهرت نتائجه أن نسبة 98.83% من جملة الأصوات التي أُدلِيت كانت لصالح الإنفصال. نتيجة الإستفتاء هذه، دلالة قاطعة على مدى عمق الأزمة السياسية في السودان، وكأن الجنوبيون قالوا، وعلى مشهد من العالم، كفى للإستعمار الداخلي في بلادنا. لذا جاء الإنفصال في 9 يوليو 2011م، وهو يحمل في طياته بركات الشرعية الدولية.
وفي ظل تعنت نخب الشمال النيلي في مواصلة تطبيق سياسات الإقصاء، يتبادر إلى الذهن أسئلة كثيرة تحتاج لوقفة تأنّي للإجابة عليها. من بين هذه الأسئلة، السؤال عن ماذا تنوي هذه النخب أن تحققها باتباع هذه السياسات؟ وماذا تستفيد النخب الحاكمة إذا تحول البلد – لا سمح الله – إلى صومال ثاني؟ لكن السؤال الأهم والذي يحتاج إلى تأمل دقيق من الجميع، هل ستقود ثورة دارفور إلى نفس نتائج ثورة الجنوب؟ مع الوضع في الإعتبار الشريط الملتهب من دارفور في أقصى الغرب إلى البحر الأحمر في أقصى الشرق.
العقد الاجتماعي:
من السرد السابق نخلص بأن نخب الشمال النيلي، التي ورثت السلطة السياسية والاقتصادية في السودان، قد طبقت برامج الإقصاء والتهميش بمنهج محكم ليس فقط كيف تحكم البلاد لكن أيضاً بمن. وهي بذلك أنشأت وطورت أحزاب سياسية تصنف إما طائفية دينية أو عقائدية متطرفة. إضافةً إلى ذلك أثبتت هذه النخب بأنها لا تعترف بالتعدد العرقي والديني والثقافي، فعملت على تأصيل التطهير الثقافي وعدم التنمية الاقتصادية. وهكذا أوصلت هذه السياسات المدمرة البلاد إلى ما هو عليه الآن، فشل في إدارة البلاد وفشل في تماسك وحدة البلاد. ولخلاص البلد من محنته، يجب على الوطنيين التوجه والسعي الجاد نحو إجراء عقد اجتماعي يشمل كل مكونات المجتمع السوداني.
من بين القراءات التاريخية التي تشير إلى بداية تطور مفهوم العقد الاجتماعي، نجد في القرن الثالث عشر، أن الصراع بين الملك جون والبارونات في إنجلترا، قد أفضى إلى ثورة مسلحة ضد الملك وإجباره على توقيع وثيقة الحقوق Megna Charta سنة 1215م وفيها أكره الملك على احترام الأوضاع القائمة في ظل الدولة الإقطاعية. وكان الملك في ذلك الوقت يتمتع بحق الملوك الإلهي لا يسأل الملك إلا أمام الله الذي يستمد منه سلطانه مباشرةً.
نشأ مفهوم العقد الاجتماعي في صورته الحالية، كتطور طبيعي للفكر الفلسفي الذي كان سائداً في القرنين السابع عشر والثامن عشر، لوصف الأوضاع السياسية للمجتمعات الأوربية. هذا المفهوم أتى بحلول ناجعة للصراعات القائمة آنذاك في أوروبا، فهذه الأفكار جعلت من مجتمعات النزاعات، أن تتحول إلى مجتمعات المجتمع المدني المتحضر. إن مفهوم العقد الاجتماعي، الذي يعني في معناه العام، إبرام اتفاق بين الناس الذين جمعتهم رقعة جغرافية محددة، بموجبه يتحدون ويكونون هيئة معنوية لإدارة الإرادة العامة. هم يسمونها دولة، يصبحون رعاياها ومواطنون فيها، يتساوون في الحقوق والواجبات. وبالتالي أصبح في قناعاتنا، أن مفهوم العقد الاجتماعي، يمكن أن يصلح علاج مفيد للأزمات السياسية في دول العالم الثالث وبالأخص السودان.
وفي بحث تطور مفهوم العقد الاجتماعي، يمكن أن نستخلص هنا بعض آراء فلاسفة تلك الفترة. فنجد أن الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز (1588 – 1679م) يقول “أن سلب الحريات من الناس والصراعات” التي كانت موجودة في عهده، والصراع في إنجلترا و”علاقة الملك بالبرلمان ثم علاقة الدين بكل من المجتمع والدولة، شكلت الأرضية للتفكير في قيم الحرية.” فيقوم ويصف الناس “بأن معظمهم يعتقدون أنهم أسمى من الآخرين، وهم يتصفون كذلك بغرور باطل. وحقيقة الأمر أن معظم الناس متساوون في القدرات الجسدية والعقلية”. وبعد مرور أكثر من أربعمائة عام، نجد أن هذا الوصف مطابق تماماً في حكام سودان اليوم، من غرور باطل وعدم المساواة بين الناس في القيمة البشرية. وبما أن هذا هو حال السودان، في القرن الحادي والعشرين، يجب على الأجيال الحالية أن تسعى جادة للبحث عن الحلول الناجعة والمستدامة. وهذا يتطلب الفهم العميق والإيمان الراسخ بأن طبيعة العقد الاجتماعي هو ما يجب أن يفهمه الناس بأنه العامل المشترك الذي يقبله الكل كأساس للمجتمع. وفي هذا يقول توماس هوبز أن “العامل الأساسي هو الحرية أو الحق المنظم بالطبيعة أو العقل.”
من هنا فإن العقد الاجتماعي في معناه العام، هو اتفاق مجموعة من الناس من التنازل عن حريتهم الطبيعية للإرادة العامة دون أن يتركوا حرياتهم. وعندما تُنتزع منهم حرياتهم الطبيعية تقوم الثورات التي تقود في النهاية إلى العقد الاجتماعي أو الاتفاق لصالح الإرادة العامة، أي إنشاء الدولة برضاء الجميع. ويذكر توماس هوبز، كيف أن الحروب الأهلية في إنجلترا وثورة البرلمان بقيادة أوليفر كرومويل، أدي إلى إعدام الملك شارل الأول في العام 1649م، كما تسببت تلك الثورة الإنجليزية في قيام ثورة مماثلة في فرنسا أدت بدورها إلى إعدام الملك لويس السادس عشر في فرنسا.
في قراءة أخرى للفيلسوف الإنجليزي جون لوك (1632 – 1704م)، إذ يصف حالة الطبيعة “بأنها الحرية التامة التي يكون للناس فيها الحق في تنظيم أفعالهم والتصرف في ملكياتهم، والميل إلى أشخاصهم على نحو ما يرونه مناسباً لهم داخل الإلتزام بقوانين الطبيعة – الذي يوحي بالنظام العقلاني لوجودنا – دون الحاجة إلى الإعتماد على إرادة أي إنسان آخر”. وقانون الطبيعة هذا عند جون لوك، يهدف إلى أن يُعلِم الناس بشكل أساسي على أن لا يؤذي فردٌ فرداً آخراً. فالإتفاق هو الطريقة الوحيدة التي يسلب بها الفرد نفسه من حريته الطبيعية، ويدخل في إلتزامات المجتمع المدني، باتفاقه مع البشر الآخرين على الدخول في وحدة وتشكيل المجتمع المدني.
هنا يؤكد لنا جون لوك، أن الدولة في المجتمع المدني (طبيعة العقد الاجتماعي)، “تنشأ من اتفاق جماعي بين الناس على أن يكون الحكم فيها للأغلبية. وبهذا الإعتبار فإن حكومة المجتمع المدني هي مخلوقة عندما أي عدد من الناس يصنعون بالاتفاق كل مع الآخر مجتمعاً، فإنهم بذلك يصنعون مجتمع الجسم الواحد بقوة تفعل ككيان واحد، محدد فقط بإرادة وشرط حكم الأغلبية المقيدة”، أي الأغلبية التي يجب أن تحترم حقوق الجميع. لذا فإن “حاجة المجتمع المدني إلى السلطة الحاكمة أو الدولة، هي الحاجة للمحافظة على الحياة والحرية والملكية، وهي حقوق مهددة بالتعدي”. لهذا فإن غاية القانون هي الحفاظ على حرية الإنسان. والعقد في طبيعته عند جون لوك، هو تنظيم للحرية بالقانون. وقيام المجتمع المدني هو دلالة الحرية المنظمة. وبالتالي فإن مصدر قوة الدولة، نابع من العقد أو الاتفاق، الذي يقيد الحكومة ويفصل السلطات ويقر حق الثورة، عندما تخرج الحكومة عن العقد أو الاتفاق.
وفي فرنسا، نجد أن الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو (1712 – 1778م)، يرى في العقد الاجتماعي على “أنه نابع من عدم المساواة السياسية، إذ تمثل الامتيازات التي يتمتع بها البعض على حساب الآخرين. فالناس يعيشون الحاضر فقط، ولا يمتلكون أية خطة عقلانية للمستقبل”. وبالفعل هذه هي حالة النخب السودانية الحاكمة، خاصة أهل المؤتمر الوطني. ويطلق روسو السؤال التالي، “كيف تستطيع السياسة الفاسدة أن تتحول إلى سياسة جديدة للفضيلة المدنية؟” ويجيب فيقول ” يمكن من خلال شكل التربية المدنية التي تعلم الأفراد واجباتهم. وتعلمهم جعل حب وطنهم في المقدمة”. وهذا التوجه نحو التربية الوطنية هو الذي يُؤسس الفكرة المحورية أو الفكرة الرئيسية للعقد الاجتماعي الجديد عند روسو.
وفي موضع آخر يسأل روسو نفسه، “كيف يوجد شكل من الاتحاد، يدافع ويحمي بكل القوة، العامة الشخص وخيرات كل متحد، عن طريق الوسائل التي بها يتحد كل فرد مع الكل، ومع ذلك لا يطيع إلا نفسه فقط، ويبقى حراً كما كان؟” ويجيب نفسه فيقول يوجد في، “العقد الاجتماعي الذي يشترط أن كل فرد يجب أن ينقل كل حقوق المرء إلى المجتمع. ولما كان هذا الشرط متساوياً بالنسبة لكل فرد، فليس لأحد مصلحة أن يجعله شاقاً على الآخرين.” ويسأل مرة أخرى “لماذا يقبل الأفراد بهذا النوع من الترتيب الاجتماعي؟” فيجيب، “ذلك لأنهم يرغبون في أن يحددوا لأنفسهم دوراً في التنظيم الجمعي. وهكذا يريدون مثل كل الآخرين الخضوع للقواعد والأهداف المشتركة للنظام أو التنظيم.” فهنا تكمن الميزة التي يجنيها الأفراد بعمل هذا، إذ “أن كل شخص يهب نفسه للجميع لا يهب نفسه لأحد”. بمعنى أن كل شخص أصبح محكوماً بفكرة الخير المشترك ذاته، الذي يرى بإعتباره مفيداً لكل الناس، بما فيهم بطبيعة الحال نفس المرء أو نفس الفرد، فيدخل كل شخص في التوجه الأسمى للإرادة العامة. وعمل الإرادة العامة هنا هو أساس حياة المرء. فالإرادة العامة بالنسبة لروسو هي دائماً حق، وهو قناعة تتجسد في ما تطالب الآخرين ليفعلوه لك، يجب أن تفعله لهم.
وفي موقع آخر، يتحدث روسو عن مستوى الوعي السياسي المتقدم، الذي يجب أن يتوفر لجمهور الشعب، فيقول “يعتمد تعضيد المساواة السياسية على إمكانية المجتمع الذي فيه يكون المواطنون قادرين على التفكير بالقضايا العامة باعتبارهم يناقشون المسائل أو القضايا المواجهة لهم، وعندما لا يملك الناس هذه القدرة تتحول السياسة إلى صراعات المصلحة الخاصة باستخدام المنتصرين القوة العامة لتشجيع أهدافهم الخاصة على حساب الآخرين.” على ضوء هذا يجب أن نقر بضرورة الإثراء في نقاش المسائل الخلافية باسلوب حضاري، لنصل إلى تفاهم مشترك ومن ثمّ سلام دائم، الذي هو مقصد فكر العقد الاجتماعي.
في عصرنا هذا، ليس بالضرورة أن يطبق مفهوم العقد الاجتماعي باتباع نفس الخطوات التي تمت في أوروبا في القرون الماضية. الذي يهم، بل والضروري أن تجتمع كل شعوب السودان المختلفة في مؤتمر جامع وبإرادتهم الحرة، يمثلون أقاليمهم المختلفة يعبرون عن مصالحهم، ففي ذلك يؤسسون على إجابة سؤال محوري، وهو كيف لهم أن يعيشوا في هذه الرقعة الجغرافية في أمن وسلام دائمين؟ والإجابة على ذلك هي، القيام بإبعاد كل المسائل الخلافية من العمل العام. وهذا يعود إلى طبيعة الإنسان الاجتماعية حيث أن الإنسان لا يستطيع العيش منعزلاً عن غيره من أفراد البشر الآخرين، فلا بد لهم أن يتعاونوا من خلال تفاعلاتهم الاجتماعية المختلفة.
فالمسائل الخلافية، من إقحام الدين في السياسة، أو تحديد عرق بعينه لإدارة شئون الدولة، أو تفضيل ثقافة محددة لتهيمن على بقية الثقافات، أو إقرار جنس واحد لإدارة الدولة – كأن تقول أن المرأة لا تصلح لقيادة الدولة، وهكذا. مثل هذه المسائل هي التي تسبب الصراعات والإقتتال بين الناس أفراداً وجماعات. ومن ثمّ خلق بيئة غير آمنة للجميع، بيئة تقود إلى فقد مصالح الأفراد، بيئة تؤدي إلى الإنهيار الكلي للمجتمع. لهذا، فالحل يكمن في اتفاق الجميع بألا تدخل هذه المسائل في عمل الإرادة العامة. وهذا ما يعنيه روسو في كيف يوجد شكل من الاتحاد، يدافع ويحمي بكل القوة العامة، الشخص وخيرات كل متحد، عن طريق الوسائل التي بها يتحد كل فرد مع الكل، ومع ذلك لا يطيع إلا نفسه فقط، ويبقى حراً كما كان؟ أي العقد الاجتماعي الذي يشترط أن كل فرد يجب أن ينقل كل حقوق المرء إلى المجتمع.
حق تقرير المصير والعقد الاجتماعي:
تقرير المصير والعقد الاجتماعي مصطلحان يقودان في نهاية المطاف إلى تحقيق نفس الهدف، وهو إقامة دولة المواطنة برضاء كل أهل البلد المعني. وإذا كانت خلاصة هدف العقد الاجتماعي – حسب آراء المفكرين المذكورين آنفاً – هي تحقيق الحرية التامة التي يكون للناس فيها الحق في تنظيم أفعالهم والتصرف في ملكياتهم، ملتزمين بقوانين الطبيعة. فإن تقرير المصير من جانب آخر، هو مبدأ في القانون الدولي الذي أقره ميثاق الأمم المتحدة وفي ذلك أن لجميع الشعوب الحق في تقرير مصيرها. هنا نلاحظ أن إحدى مواد القانون الدولي تنص على أنه “لجميع الشعوب حق تقرير مصيرها بنفسها، وهي بمقتضى هذا الحق حرة في تقرير مركزها السياسي وحرة في السعي لتحقيق نمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي الذاتي”. الجدير بالذكر أن مفهوم تقرير المصير، قد تجسد أولاً في إعلان الاستقلال الأمريكي في العام 1776م، ثم في الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان في العام 1789م.
وثَمة فرق يجب أن نوضحه، ما بين مفهومي العقد الاجتماعي وتقرير المصير. فكما رأينا، يعمل العقد الاجتماعي لخلق مجتمع مدني يسود فيه السلام، وفي ذلك يستخدم العقد الاجتماعي وسيلة واحدة لبلوغ هذه الغاية، ألا وهي اتفاق الناس في حماية حرياتهم وتنظيم أفعالهم والتصرف في ملكياتهم، في إطار المجتمع الواحد. ففي العقد الاجتماعي يصل الناس إلى قناعة راسخة بأن حرياتهم مهددة بالسلب، وأن حمايتها تكمن في الاتفاق الذي يحمي هذه الحريات بالقانون. بينما تقرير المصير، يعمل على تصحيح أوضاع غير متفق عليها من الجميع في دولة قائمة. وتصحيح الأوضاع هذه، تحتمل إنتاج عدة احتمالات عند ممارسة حق تقرير المصير، من ضمنها الاستقلال التام، أي إنشطار القطر الواحد إلى دول عدة فيصبح كل قطر مستقل تماماً عن الآخر، كما حصل في السودان في شهر يوليو العام الماضي. وهناك أيضاً احتمالات أخري منها، أن تكون النتيجة في شكل اتحاد فيدرالي/كنفدرالي، أو حماية دولية لإقليم ما في إطار الدولة الموحدة. مثال ذلك أن يطلب شعب منطقة جبل ميدوب الواقع في أقصى شمال غرب إقليم دارفور، حماية من الأسرة الدولية بمقتضاها تطاح لهم المجال للحفاظ على الإرث الثقافي الموروث، وتسمح لهم بتحقيق تنمية محلية على النحو الذي يرونه مناسباً. كما يحق لهم أن يشاركوا في إدارة شئون الدولة على المستوى القومي. ومن الاحتمالات الأخرى أن تقام وحدة كاملة بين الأقاليم المتصارعة. وفي كل الأحوال تهدف ممارسة حق تقرير المصير أن يعم السلام لهذه المجتمعات، سواءً أبقوا في دولة واحدة أو تفتتوا إلى عدة دول. لكن يبقى القاسم المشترك بين مفهومي العقد الاجتماعي وتقرير المصير، أن أفعالهما هي من صنع شراكة كل الناس في البلد المعني. والهدف الأساسي منها هو تنظيم حياة الناس السياسية والاقتصادية والاجتماعية على النحو الذي يرضونه بمطلق حريتهم دون أن تفرض عليهم جهة ما أشياء خارجة عن إرادتهم.
مسألتان معيقتان لعملية العقد الاجتماعي أو لممارسة حق تقرير المصير، هما مفهوم العلمانية والهوية القومية. فقد رأينا كيف أن الثورات المطالبة بالحقوق الأساسية للإنسان، قد أدت إلى قتل عدد من الملوك الذين كانوا يتمتعون بحق الملوك الإلهي ويؤسسون لحاكمية الدين. وبما أن هذين المصطلحين هما من ضمن المسائل الخلافية في وسط المجتمع السوداني، فسأقدم هنا بعض التوضيحات المختصرة لهما لغرض مفهوم العقد الاجتماعي الذي نحن بصدده الآن.
العلمانية
إبتداءً، الجميع متفقون على أن السودان بلد متعدد الأعراق، والديانات، والثقافات، واللغات. وهذا واقع لا يمكن إلغاءه أو تجاهله. لذلك فالجميع ينادي بعدم تفرقة الناس على أساس الدين أو العرق أو الجنس أو اللون أو الإقليم أو القبيلة أو الخلفية الثقافية. وهذا يعني في حقيقته فصل هذه الأمور من ممارسة العمل السياسي. إذاً ما الذي يمنع من استخدام كلمة العلمانية لتعني فصل السياسة عن الدين والعرق والجنس والإقليم والقبيلة والثقافة؟ العَلمانية أي Secularism تعني، اصطلاحاً ” فصل الدين والمعتقدات الدينية عن السياسة. وقد تعني عدم قيام الحكومة أو الدولة بإجبار أي أحد على اعتناق وتبني معتقد أو دين أو تقليد معين لأسباب ذاتية غير موضوعية.” من هنا يمكن أن نشير إلى الرأي الذي مفاده أن الأنشطة البشرية والقرارات ولا سيما السياسية منها ينبغي أن تتجرد من التأثير الديني. لذا من الناحية السياسية، العلمانية هي التحرك في اتجاه الفصل بين الدين والحكومة. وهو ما يسمى في كثير من الأحيان في الدول الغربية بالفصل بين الكنيسة والدولة. في هذا نجد أن المفكر البريطاني جورج هوليوك الذي يعتبر أول من ابتدع مصطلح العلمانية في العام 1851م، يصفها بأنها نظام اجتماعي منفصل عن الدين غير أنه لا يقف ضده “لا يمكن أن تفهم العلمانية بأنها ضد المسيحية هي فقط مستقلة عنها؛ ولا تقوم بفرض مبادئها وقيودها على من لا يود أن يلتزم بها. المعرفة العلمانية تهتم بهذه الحياة، وتسعى للتطور والرفاه في هذه الحياة، وتختبر نتائجها في هذه الحياة”. وبناءً عليه، يمكن القول أن العلمانية ليست أيديولوجيا أو عقيدة بقدر ما هي طريقة للحكم، ترفض وضع الدين أو سواه كمرجع رئيسي للحياة السياسية والقانونية، وتتجه إلى الإهتمام بالأمور الحياتية للبشر بدلاً من الأمور الأخروية، أي الأمور المادية الملموسة بدلاً من الأمور الغيبية. هذا المفهوم لمعنى العلمانية، قاد الكثيرين في أمريكا بأن يقولوا أن الدولة العلمانية قد ساعدت إلى حد كبير في حماية الدين من التدخل الحكومي.
هوية السودان القومية:
عندما تُبعد كل المسائل الخلافية بحيث لا تتدخل في إدارة شئون الدولة دستورياً، ويبقى القاسم المشترك الوحيد الذي يجمع السودانيين هو البقعة الجغرافية أي السودان، حينئذ تصبح الهوية القومية للسودانيين التي لا خلاف فيها هي السودانوية.
علاقة المعارضة الحالية بالعقد الاجتماعي:
يمكن أن نصف المعارضة القائمة الآن في السودان بأن لها ثلاثة أوجه (1) كفاح مسلح – الحركات المسلحة، والتي تحتل المنطقة الممتدة من دارفور في أقصى الغرب إلى مشارف البحر الأحمر في أقصى الشرق (2) معارضة سلمية – منظمات المجتمع المدني، التي بدأت تنمو بصورة سريعة في الوسط (3) الصامتون في بيوتهم، وهم ينتظرون ظهور القائد الملهم ليخرجوا معه لاسقاط النظام. في قراءة عامة لأدبيات الحركات المسلحة وبعض الجبهات مثل الجبهة السودانية للتغيير، يضطدح لنا أنها تسعى إلى إعادة تشكيل أسس إدارة الدولة بمنهج وطني. ولطالما هذا هو الهدف، وفي ظل غياب قائد كارزمي في الظرف الراهن ليوحد ويقود كل فصائل المعارضة المتفرقة – المدنية منها والعسكرية – لبلوغ الهدف المرجو، يصبح عقد مؤتمر جامع للاتفاق حول نوعية الدولة المراد تأسيسها، أمراً لا مفر منه إذ يجب أن يسبق اسقاط الحكومة الحالية. وإلى أن يتم ذلك، فالمعارضون ومنذ مجئ هذا النظام إلى السلطة قبل 23 عاماً يتحدثون بلسان واحد، ولكن قلوبهم وأفعالهم شتى، فلن يتم إعادة تشكيل الدولة السودانية بالنحو الذي ينادون به.
الفترة الإنتقالية:
عندما يتم ابرام العقد الاجتماعي بين كل شعوب السودان، هناك حاجة ماسة لفترة انتقالية لتنفيذ الاتفاق السياسي الذي تم بين الشعوب حتى يصبح دستوراً قومياً حقيقياً، وفي تقديرنا أن تكون هذه الفترة لمدة عشرة سنوات للأسباب التالية. 1- الفترة الانتقالية مهمتها تأسيس الدولة التي فشلت الفترات السابقة أن تحققها، كانت الأولى ما بين 1954 – 1956م والثانية أكتوبر 1964 – فبراير 1965م والثالثة سنة واحدة فقط في 1985م. 2- فرصة للحركات المسلحة أن تتحول إلى أحزاب سياسية، لأن الفترة القصيرة هي إعادة إنتاج الأزمة. 3- فرصة للأحزاب السياسية أن تنمو في بيئة من الحرية لممارسة الديمقراطية في أنفسها أولاً. 4- القوى الحديثة التي عملت لاسقاط النظام هي القادرة لبناء دولة المواطنة، من حيث وضع الخطط الوطنية للتعليم والتربية بما فيها القوات النظامية. 5- القوى التي تسقط النظام هي الأقدر على حماية المكتسبات.
وفي الختام، أكرر سؤالي السابق: هل ستقود ثورات الهامش إلى نفس نتائج ثورة الجنوب؟.
أبكر محمد أبوالبشر
[email protected]
كمبالا يوغندا 23 يناير 2012م