العقاد .. حركة “نحوية” غيّرت مسار حياته/ابراهيم سليمان
عباس محمود العقاد أديبٌ بارع، وشاعر فحل، وفيلسوف حاذق، وسياسي لا يشق له غبار، وبرلماني شامخ كالطود، ومؤرخ ثبت، وصحفي عملاق، وعالم نفس ساحر، ذاع صِيتُه فملأ الدنيا وشغل الناس، وقف موقف شك من كل قديم، وتمّرد على التقليد بطريقته الخاصة.. اعظم من دعا إلى الله بقلمه .. ولد عام 1889م عام العمالقة كما عرف، وهو العام الذي ولد فيه طه حسين، وهتلر، ونهرو، وشارلي شابن.
قال عنه الشيخ محمد عبده، عند زيارته لمدرسته الابتدائية التي اكتفى به نظاميا: “أما يجدر بهذا أن يكون كاتباً بعدُ”، قال العقاد أنه حفظ نص هذه الكلمة وحركتها في مخيلته، وتأكد جيداً أن الشيخ محمد عبده شيخ زمانه، وقف بالضم على حرف الدال في كلمة (بعدُ)، وقال إن كان الشيخ قد وقف على السكون، ربما تغيّر مسار حياته كلياً، ومغزى الوقوف على الضم دون السكون، بالنسبة لتلميذ نابه، يجيد الإنصات، ويحسن السمع، يعني الحسم وعدم المداهنة في المواقف، وهي سمات مدرسة الشيخ محمد عبده وتلميذه سعد زغلول زعيم الوفد، هذه الكلمة المفصلية في حياة العقاد الباكرة، بالإضافة إلى بيئة نشأته الصحراوية الجافة، اكتسبتاه صلابة المواقف وصرامة الفكر وجبروت المنطق.
بات العقاد ممتناً للظروف القهرية التي اجبرته على الاكتفاء بالشهادة الابتدائية، التي صرفته عن رغبته في الالتحاق بالمدرسة الحربية لإجادته باكراً لشعر الملاحم الحماسية، يُقرأ هذا الجنوح مع العلم بأن هاجز طفولته، كان الرعب وشبح الغزو المحدق باهله من قبل جيش الدراويش (خليفة المهدي) لمسقط رأسه مدينة اسوان بأقصى صعيد مصر، رغم هزيمتهم في معركة توشكي في عام ميلاده، وتقهقره جنوباً.
ومن المفارقات وسخرية القدر، اضطر العقاد، بسبب مناهضته الواعية والشجاعة للنازية، الهروب إلى السودان (بلد الدراويش) عام 1942م من وعيد رومل قبيل معركة العلمين الفاصلة خلال الحرب العالمية الثانية، ولم يعد إلى مصر الاّ بعد انتهاء الحرب الكونية الاخيرة.
استنفذ العقاد آخر خلية من عقله المتفّتق في الإنتاج الفكري، حيث الف اكثر من مائة كتاب، وهو رقم لم يكسره احد حتى الآن فيما نظن، كتب العقاد في كافة المجالات الإنسانية تقريبا، قال في حوار صحفي أن في مكتبته الخاصة حوالي مائة كتاب عن الحشرات، ويقرأ عن الرمل والفلك، من باب الإلمام بالعلم القديم، ومارس التنجيم في الانتخابات النيابية مجاراة لخصم مراوغ، وتحدى التشاؤم بالتمادي والاستمرار في الكتابة عن ابن الرومي، نذير الشؤم الذي اهلك الكثر من الذين حاولوا الكتابة عنه، ووضع مجّسم لطائر البوم في مكتبته، واختار السكن في المنزل رقم 13 بمصر الجديدة، والذي تحول إلى جامعة مفتوحة (الصالون) ارتادها كبار الأدباء والعلماء والمفكرين واساتذة الجامعات.
كتب رواية يتيمة، او قصة سماها سارا، وهي اكثر الروايات العربية، انشغل النقاد بالبحث والتنقيب عن شخصية بطلتها الحقيقية، سيما وان العقاد قد افصح انها وبقية شخوصها حقيقيون، والقصة تعّبر عن تجربتين عاطفتين خاضهما المؤلف، وتوّصل النقاد إلى ان سارا، هي سيدة تعمل مترجمة اسمها أليس داغ، وزميلتها في الرواية (هند) ما هي إلاّ الممثلة مديحة يسري، وكلتيهما وقع العقاد في غرامهن، وانتهت علاقته بهن بالفشل، وقيل أن الأخيرة، اختارت التمثيل، وفضلت الزواج من الوسط الفني وهجرت العقاد، وكانت موضع لوحة الذباب السكري، وهي لوحة فنية عبارة عن تورتة شهية وقد تهافتت عليها الذباب، ظلت معلقة على الحائط مقابل سرير نومه. وحينما استسلم لحقيقة هجران حبيبته كتب العقاد: «وبكيت كالطفل الذليل أنا الذي x ما لان في صعب الحوادث مقودي»
خاض الأستاذ معارك ادبية وفكرية وفلسفية عنيفة، اشهرها معركته مع امير الشعراء احمد شوقي.. مارس الحياة النيابية بفاعلية، وتحدى البلاط الملكي، وقال قولته المشهودة، والتي ظلت ملهمة للشعب المصري إلي يومنا هذا. قال العقاد من داخل قبة البرلمان موجهاً حديثه للملك فؤاد الاول عندما حاول العبث بالدستور: “إن الأمة على استعداد لأن تسحق أكبر رأس في البلاد يخون الدستور ولا يصونه”. ولم يتفق العقاد مع زعيم سياسي باستثناء سعد زغلول رئيس حزب الوفد .. رفض جائزة الدولة التقديرية للآداب في عهد عبد الناصر، كما رفض درجة الدكتوراه الفخرية من جامعة الأزهر.
وباستثناء معاركه العاطفية، لم يخسر العقاد اية معركة، فقد انتصر حتى على نفسه، عندما اقنعها بالزهد والرهبانية، وأن حفظ النوع والذات البشرية، ليس بالضرورة ان يتم من خلال إنجاب الذرية، وإنما هنالك وسائل اخرى لإشباع هذه الغريزة .. ومعركته مع طه حسين بشأن رسالة الغفران لأبي العلاء المعري، خسرها الادب العربي، ولم يخسرها العقاد بإيثاره الصمت ليس عن عجزٍ، وهو ذات الموقف الذي اختاره ابو العلاء المعري مع داعي الدعاة .. خسر العقاد اصدقائه، ولم يخسر مواقفه .. كسب الرهان على دول الحلف في الحرب العالمية الثانية، في وقت يهتف الآخرين (تقدم يا رومل).
تحدى العقاد الأطباء البيطريين، واثبت لهم أن نوعاً معيناً من القردة لها سلوك جنسي مزّيف، وسط دهشة من يرى أنه مجرد اديب وفقيه وفيلسوف صعب المراس. اثبت لهم ان بعض إناث القردة تقوم بعملية تزوير غريبة فتذهب الأنثى إلا بعض الأشجار، وتظل تخربش هذه الأشجار حتى تفرز لباً ابيض، وتجئ الأنثى إلي هذا اللبن الأبيض وتغمس فيه لسانها وقدميها ثم تدهن به ذيلها وبطنها واحياناً وجهها فإذا رآها الذكر اقبل عليها. ويضيف، انها تفعل تماماً ما تفعله اناث الإنسان .. فالطفلة تدخل غرفة امها وتمسك اقلام الشفاة والبودرة. تضع قدميها على حذائها ذي الكعب العالي .. وترتدي قبعتها .. أنها تريد ان تقتصر سنوات الطفولة وتقفز الى الأنوثة بسرعة.
وصِمَ بعدو المرأة، فألف كتابه “المرأة في الإسلام”، إلاّ أنه زاد الطين بلة، حيث جاءت خلاصته مخيبة لآمال الجنس الناعم، ونعتقد أن موقفه من المرأة متسقة مع صرامته الفكرية، ومتماهية مع بيئة نشأته الاجتماعية المحافظة، وليست وليدة خيباته العاطفية.
في زمانهم، بالنسبة للأدباء والمفكرين، العقاد وطه حسين كالأهلي والزمالك في زماننا هذا، وقيل أن طه حسين معلم، والعقاد عالم، وبالإمكان حذف جملة من كتابات طه حسين، ويظل المعنى مستقيما، أما اذا حُذفت كلمة من كتابات العقاد، اختلّ المعنى .. قال العقاد: طه حسين بنى قنطرة بين الأدب العربي القديم، والأدب الإغريقي، وقال طه حسين عن شعر العقاد: اؤمن به وحده، وجوابي يسير جداً لأنني اجد عند العقاد ما لا اجده عند غيره من الشعراء. وبايعه اميراً للشعراء بعد وفاة أحمد شوقي.
فالعقاد نسيج وحده، ولا يمكن وضعه في أي قالب فكري أو ادبي، او فلسفي، وهو كمن ينحت في الصخر لإيجاد مكانة له وسط عمالقة الأدب والفكر .. اسس مع آخرين مدرسة نقدية عُرفت بمدرسة الديوان، إلا ان النقاد يرون أن الفارق بينها ومدرسة التقليد الذي يتزعمه احمد شوقي، شكلية وليست جوهرية، وأنّ الخلاف بينه وامير الشعراء سياسي بالدرجة الأولى، وليس ادبي بحت .. وهو مع التقليد في نظم الشعر العمودي وضده في نفس الوقت، وضد شعر الحداثة التي كان يحيلها إلى لجنة النصوص عندما كان مقرراً لمجمع اللغة العربية .. ضد الاستبداد السياسي، واستخدمه ادبياً، حيث مارس سلطة قهرية على بعض عضوية مجمع اللغة العربية، فقد هدد شعراء التفعيلة (صلاح عبد الصبور، وأحمد عبد المعطي حجازي) بالاستقالة من مجمع اللغة العربية، إن تمادوا في إلقاء قصائدهم بالمنتدى الأدبي بدمشق، فما كان منهم إلا الانصياع.
رضى عنه الشيعة، وقال عنه اهل السنة انه اعظم من دافع عن الإسلام بقلمه، ويراه المتصوفة انه راهب متبتل، يتسربل بالزهد والإعراض عن الدنيا وزخرفها.
من انبغ تلاميذ ومنتسبي مدرسة العقاد، الأستاذ انيس منصور، وسيد قطب، والاخير حاول جاهداً مجاراته وتقليد مسيرته الفنية، فألف رواية وحيدة اسماها “اشواق”، مقابل “سارا” العقاد، والف، كتاب “كتب وشخصيات” تقليداً لكتاب العقاد “بين الكتب والناس”، كما قلّد سيد قطب طه حسين في كتابه الأيام بكتابه “طفل من القرية” قبل ان يتجه للشأن الديني.
من اهم ما كتبه العقاد سلسلة العبقريات، والتراجم والسير، وقال انه لم يكتب عن اية شخصية إلا عن تعاطف، او تكون بينهما قضية اخلاقية. إلا أن طه حسين رصد جائزة معتبرة لمن يفهم عبقرية عمر، واصفا اياها بالغموض.
يعتبر العقاد معجزة فكرية، لمحدودية تعليمه النظامي، وهو سبب استقلاليته الفكرية، وهو لا يرى أن هناك من له فضلٌ عليه، باستثناء الشيخ محمد عبده وهو يعتبره قدوته الأخلاقية .. كان العقاد عزيز النفس، لم ينزع رداء العفة والأنفة والكبرياء طيلة مشوار حياته الصارمة، والحافلة بالأبداع والعطاء والتميز على أبناء جيله.
وصية العقاد للكتاب والأدباء الشباب: فكّر في واجبك كما تفّكر في حقك، واعمل طلباً للإتقان لا طلباً للشهرة والجزاء، ولا تنتظر من الناس اكثر مما يحق للناس أن ينتظروه منك.
لو أن الشيخ محمد عبده، وقف في كلمته بشأن مستقبل ذلكم التلميذ النجيب على السكون، لسكنت حياة العقاد على الأرجح، ولآثر السلامة السكونية في مواجهاته، وقنع بالحياة الوظيفة الرتيبة، وجامل الأدباء المقلدين، وهادن الزعماء السياسيين، وجامل المفكرين التقليدين، وضاعت على الأمة العربية والإسلامية كنز ابدي من الفكر ورّثها العقاد في اكثر من مائة كتاب ومجلد.
لو أنّ الشيخ سكّن في الوقوف، ربما اختلفت ملامح وجه العقاد الصارمة، وصار جبّار الفكر والأدب العربي وادعا، وكان العملاق متواضعا، وقوف الشيخ على الضم، فوّت على العقاد تعّلم المهارات الناعمة، لاستخدامها عند لزوم ما يلزم، وليس مستبعداً أن يتسامح مع شكوك حبيبته “هنومة”، ولعلم أنّ لا كرامة مع الحب، وأن الجنس الناعم يحتاج للضم ايضا، ولكن ليس ضم الشفاه عند حروف الوقف.
قد يكون الشيخ محمد عبده، تجنّى على العقاد، بحرمانه ضمنياً من ملذات الحياة الدنيا، لكن بلا شك قد نفع الشيخ الأمة الإسلامية ولغتها العربية، برسالته “النحوية” المشفرة، والتي لم يخطئ التلميذ العبقري في التقاطها، والعض عليها بالنواجذ، إلى أن انجزّ رسالته في الحياة كاملة غير منقوصة حسب تقييمه، ويا لها من رسالة؟
للإطلاع على المقالات السابقة:
http://suitminelhamish.blogspot.co.uk