انفصال الجنوب و سياسة الشمال
بقلم: أحمد كمال الدين
[email protected]
عمق الجرح القادم .. و القديم
يعيش السودان اليوم وضعا غاية في العسر و الاضطراب .. يستقبل الشعب فيه تطورا جديدا و غريبا في آن واحد، يمس فيه و في أرضه مقومات الوجود و البقاء و التماسك .. و الوجودُ أثبتُ الثوابت التي لا تكون من غيرها ثوابت .. بل حتى التدين فهو من أعمال الأحياء، إذ لا دين لميّتٍ، و لا تكليف .. و هذه من أسس المنطق السليم و بدائه الأشياء ..
بل قد يكون الفناء أهون أحيانا من انتقاص الحياة مما هو دون الموت .. أو انتقاص البقاء الكامل، من تلقاء بقاء الهوان مع التفرق و التمزق ..
ظلت الجيوش في بلادنا تُقسم على حماية الأرض و وحدة التراب.. بالروح و بالدم .. و هتفت بذلك الحشود و التظاهرات .. لأن بالوحدة يكون الوجود للكيان الوطني السليم المتكامل .. و بغيرها يكون الوجود و لكنه وجودٌ لجسم آخر مختلف، اختلاف كمّ و كيفٍ معاً .. حيث تعبر واقعة الفشل، في البقاء المتحد، عن ظرف وطنيٍّ غاية في العمق و الإيلام .. هي شهادة رسوب يتحمل المسؤولية عنها أهل السودان جميعُهم، و على رأسهم من تولوا كبر هذا الأمر.
من القسط القول بأن هذا الألم الجَمْعي الذي يعيشُه معظم مواطني السودان، بمن فيهم من أضمروا التصويت للانفصال أو أعلنوه، إنما هو ثمن للسلام و لحقن دماء الحرب الأهلية في جنوب السودان .. و أيّ ثمن! إنه تقديمٌ لجزءٍ من الجسم ثمناً و فداءً لسلامة سائر الجسد! و لا يكون الحديث هنا عن شمالٍ ضحّى بالجنوب أو جنوبٍ ضحّى بالشمال، بل هو سودانٌ واحدٌ ضحَّى بنفسه، أو ببعض من نفسه، شمالا كان أو جنوبا، و تكون الخسارة بذلك في كلا النصفين، شمالا و جنوبا.
لكن الإنسان ليس كله عاطفة بلا عقل، و لابد من تجرُّع الدواءِ المرِّ بالصبر على الابتلاء، و الاستمرار في الكدح القاصد إلى الله، و الاعتبار بالدروس القاسية، مما قد يفيد في مستقبل الأيام لمواجهة تحديات التعايش السلمي و العدل الاجتماعي بين عناصر السودان بجهاته و أعراقه المتعددة، في الشمال نفسِه، لأن قصة السودان مع أطرافه قد لا تنتهي بانفصال الجنوب، و من لم يمُتْ بعدُ عليه أن يمرَّ على المقابر، بغية الاعتبار، و كفى بالموت واعظا.
التكريم في القرآن للجميع
و من العدل أيضا القول بأن الكثيرين من المواطنين في جنوب السودان عاشوا سنواتِ الحرب جيلا من بعد جيل .. ذاقوا خلالها الموتَ و التشريدَ و الحرمان، و ذاقوا من قبل ذلك و بعده، كغيرهم من شعوب الأطراف البعيدة عن المركز، نصيب القسمة الضِّيزَى في الثروات و السلطات الوطنية .. و تراكمت على صدورهم همومُ الفقد و النقص في الأنفس و الأموال، و الشعور بالظلم و ما ينتج عنه من رغبة في الانعتاق من استدامة الدنيّة و سفلية اليد .. و هذا شعورٌ طبيعيٌّ لأي إنسان سيَّما و الجنوبي، كغيره من البشر، مكرمٌ بشهادة خالق البشر، الذي صمم الإنسانَ على هذه الكرامة، فلا يعيش عيشا طبيعيا سالما إلا بتوفر هذه الكرامة، و ما إن تُنتقص الكرامةُ في حق الإنسان حتى يختلّ ميزانُ حياته، و ينزعُ إلى التوازن بالهرب من أسباب الذل و الهوان، بأي وسيلة كانت، على حد قول الشهيد مالك الشباز (مالكوم إكس) إمعانا في الإطلاق من كل قيد.
تلكم هي حقيقةُ البشر، بحسب بطاقة “المواصفات” التي أثبتها اللهُ، “مصممُ” الإنسان، بين دفتي المصحف الشريف: “و لقد كرَّمنا بني آدم” (الآية 70 من سورة الإسراء).
و إذ يعجز بعضُ أهل الشمال عن تكوين هذا التصور الطبيعي السهل فإنما يعود ذلك إلى فشلٍ في تحقيق “المشاركة الوجدانية” و استحضار حالة “الآخر” الوطني بكل أريحيّة و طيبة نفس، حتى يتسنى للمرء أن يستشعر دواخل هذا الآخر و يستوعب همومه و معاناته و أشواقه، و يستجيب لنتائج ذلك الاستشعار .. و هذه ممارسة لا تتهيأ في فضاء السياسة وحدها، بل لابد لها من حراك نفسي اجتماعي، بعد أن تتوفر شروطه و مقوماته، و هو ما لم يحدث بقدرٍ كافٍ خلال عقود الحرب نصفِ القرنية.
الوحدة الجاذبة التي لم تكن .. كيف تكون؟
أما التفكر في إطار اتفاقية السلام الشامل – و لا يتصور المرء كيف يكون السلام في السودان شاملا و الحال كما نرى – فإن شرط العمل على جعل الوحدة جاذبة لم يلقَ تفعيلا على أرض الواقع، اللهم إلا من بعض الصيحات الإعلامية و “طق الحنك” المرتجل.
صحيحٌ أن السنواتِ الستّ، ما بين التوقيع على اتفاقية السلام و تاريخ استفتاء أهل الجنوب على الاختيار بين الوحدة و الانفصال، لا تكفي لتحويل الواقع الثقافي النفسي الركامي الذي بدأ منذ مطلع عشرينيات القرن الماضي أيام الحكم الثنائي، مرورا بالفترة الوطنية، لأن مثل هذا التغيير، و بسبب طبيعته الثقافية الاجتماعية المعقدة، يتطلب وقتا طويلا. لكن الممكن، مما لم يتوافر عليه شريكا الاتفاقية (التي كانت بين الحركة الشعبية لتحرير السودان و حزب المؤتمر الوطني)، هو اتخاذ شرط الوحدة الجاذبة في الاتفاقية بمثابة مشروع اقتصادي ذي تمويل معلوم يُقتطع من موازنة الدولة، و ذي خطة مدروسة و برنامج و أهداف تراتبية محددة .. و هو ما لم يكترث له شريكا الحكم لأمر – ربما – في نفس يعقوب. أما يعقوب الجنوب فقد يكون استمرأ الانفراد بحكم الجنوب بعد رحيل عراب السودان الجديد في إطار الوحدة، و أما يعقوب الشمال فقد يكون راغبا في الخروج من غرفة الفندق المزدوجة مع الشريك إلى جناح منفرد.
كان من الممكن، يقال هذا ليس تحسرا أو فتحا لعمل الشيطان بـ “لو”، و لكن اعتباراً و مدارسةً و تدبراً و بين يدينا مشكلة السودان في دارفور، من الممكن أن تُرسم معالمُ هذا المشروع، “مشروع الوحدة الجاذبة” و تُحدد له مواردُه المالية الذاتية و الإقليمية و الدولية، و تُحشد له القدراتُ الدبلوماسية، و أن يحتوي على عدد من المشاريع التنموية الكبيرة التي تُصمم اتفاقياتُها بحيث تكونُ الوحدةُ شرطاً من شروط تمامها و استكمالها .. و لا يعجز الخبراءُ عن وضع التفاصيل لمشاريع في النقل البري و الجوي و النهري الرابط .. تبدأ خطوطه من الشمال صوب الجنوب و تُستكمل بعيد التصويت للوحدة .. تُبنى جامعةٌ بمستوى عالمي في الشمال يخصص لأهل الجنوب و يقبل فيه الطلاب حال التصويت للوحدة .. تُبنى وحدات خدمية (صحية و تعليمية) في الجنوب و تستكمل معداتها بُعيد تحقيق الوحدة .. و غير ذلك، و به أو بدونه، مما يمكن أن تتفتق عنه أذهان المهتمين بشأن وحدة الوطن. ذلك لأن “الوحدة” لا تكون “جاذبة” كما نرى اليوم عبر الوسائط الإعلامية وحدها، على أهميتها، فالوحدة ليست سلعة استهلاكية تستدر رغبة المشاهد أمام شاشات التلفاز، لكنها أو المفترض فيها أن تكون “واقعا” يؤشر إلى مستقبل مقنع و واعد، يكون حافزا قويا و ثمنا لبطاقة الإرادة التي يضعها الإنسان الجنوبي في صندوق الاقتراع عندما يذهب للتصويت في الاستفتاء .. و الفرق بين الذاهب لشراء سلعة من السوق بعد التأثر بإعلان تجاري جاذب، و بين الذاهب للاعتراف بذهاب همِّ الخمسين عاما من الحرب و التغاضي عن آلام العقود و الأجيال و الإلقاء ببطاقة “المسامحة” الوحدوية داخل صندوق الاقتراع، إنما هو فرق كبير، تماما كالفرق بين الصيحات الإعلامية و “طق الحنك” في الوقت الضائع، و بين المشاريع الاقتصادية المشروطة بالوحدة ذات التمويل المحلي و الإقليمي و الدولي و الدعم السياسي. إنه الفرق بين ارتجال الألفاظ من قبيل “لحس الكوع” من جهة، و “إدارة دولة” من جهة أخرى.
الشمال الجديد و سياسة الدولة
بعد الانفصال الذي أضحى وشيكا بحسب غالب التوقعات، يكون أهل الشمال في إطار مجتمع سياسي جديد، بدأت معالمه تظهر في كلمات قادة الحزب الحاكم (المؤتمر الوطني)، سيما فيما يتعلق بالمحور الرئيس في الاختلاف الراهن بين حزب الحكومة و الأحزاب الأخرى. فبينما تنادي هذه القوى السياسية، أقال الله عثرتها المادية و السياسية، بـ “حكومة قومية” تشارك الحزب الحاكم في اتخاذ القرارات المفصلية في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ “السودان”، ترد الحكومة، على لسان الرئيس البشير و لسان الدكتور نافع علي نافع، و آخرين في الحزب الحاكم، برفض فكرة الحكومة القومية، و تقديم عرض بديل هو الانضواء تحت عباءة الحكومة الحالية، ضمن قاعدة عريضة تكون للمؤتمر الوطني فيها مكان القمة من الهرم، تجثم عليه، و يكون لسائر الأحزاب قاعدة الهرم. و يحتج المؤتمر الوطني بما أسماه بـ “التفويض الشعبي” الذي نالته عبر صناديق الاقتراع في الانتخابات الماضية التي نستغني عن وصفها للقارئ الكريم ونحن نعيش في عالم ثورة الاتصالات، و في زمان “يرى” فيه البعيد و “يسمع” ما تكنّه الاجتماعات و ما تخفي الصناديق!
لقد فات على حزب المؤتمر الوطني أن قيادة الأمة لا تقوم على مثل هذا الجدال: كأن تقول للقوى السياسية نحن أحق بالحكم منكم لأننا قمنا باحتلال ميدان الكرة الذي كنتم فيه سادة منتخبين شعبيا، ثم حددنا مقاييس الميدان و أبعاده و شروط اللعب فيه، ثم نازلناكم و “هزمناكم” في الملعب، و عليكم أن تعترفوا بنا في قمة القيادة و أنتم، إن شئتم، تشاركونا في تنفيذ القرارات التي نتخذها ضمن حكومة ذات قاعدة عريضة!
القيادة – بحسب التاريخ و بحسب تقاليد الحكم الأهلي العريق في السودان – تتطلب السعي في كسب “الرضا” بين الناس، و العمل على “تطييب القلوب” فيهم، حتى يكونوا شركاء في القرار إما بالمشاركة في صناعته من سدة السلطة أو بالرضاء عنه لصدوره عن مؤسسة مقبولة لديهم، و عندها سيتقبلون مثل هذا القرار بل سيقومون بالدفاع عنه إذا اقتضى الأمر ذلك .. و هذه المعادلة البسيطة كان يمارسها قادة الحكم التقليديون بين مواطنيهم و أهاليهم المحليين .. أمورهم كلها شورى و رضا و تناصر و احترام متبادل .. و إذا قرر العمدة مثلا قرارا كبيرا في حضور القلة و الشورى الضيقة، تراه يسعى – في غياب الشورى الواسعة – للحصول على البديل .. و هو الرضا، فيرسل مناديبه إلى فلان (باسمه) و فلان و فلان، يقولون له: لقد اتخذنا هذا القرار في غيابك، و قلنا لا يمضي الأمر إلا بموافقتك، فماذا ترى؟ و السائد في مثل هذا المناخ الصحي الطيب أن يوافق على القرار، بعد أن أشعره العمدة بأهميته في تسيير شئون المجتمع المحلي، بل قد يذهب لأبعد من ذلك و ينفي أهمية رأيه طالما أن القرار المعني قد صدر بحضور أولئك الأفذاذ، في رد عملي للتحية بأحسنَ منها، في مجتمع أصيل مُشرَب بتقاليد في الحكم راسخة، و أصولٍ في الأخلاق متينة.
رسالة “ثانية” إلى الدكتور نافع
كنت أبحث عن هاتف الدكتور نافع علي نافع لأقول له هذا الكلام .. ليس في المزاج المعتاد لأي معارضة للحكم، لأن الظرف الراهن غاية في الخطر، ليس فقط باعتبار ما نرى بين أيدينا و لكن باعتبار ما سيتهيأ من مسرحٍ مُواتٍ لمخاطر المستقبل المنظور، بعد انفصال الجنوب .. لكنها من باب النصيحة الواجبة الأداء ، الواجبِ سماعها.
كنت سأقول له: يا دكتور نافع .. أنت رجل تتمتع بذكاء مقدر، و بصفة أخرى وردت في صورة تعليق عابر من وزير سابق إسلامي و معارض صلب للمؤتمر الوطني، وقال أنك “صادق” في القول .. و أهل القانون يعرفون قيمة مثل تلك الشهادة .. و هذا أحد الأسباب التي دفعت بكاتب هذه السطور ليسلمك مقالا ناصحا حول “العدالة الاجتماعية في السودان”، و التي اختُصِرَتْ في مقال صحافي نُشر بعنوان تقليدي (“هذا أو الطوفان”) بصحيفة ألوان قبل أسابيع من الالتحاق بعمل قانوني خارج البلاد في صيف عام 2003م؛ و السبب الثاني أنكم تتمتعون بنفوذ واضح داخل الحزب الحاكم و الحكومة، مما يلقي عليكم واجبا ثقيلا ليس أقله سماع النصح في الشأن العام. إلا أن تلك النصيحة مضى عليها زمان دون سماع أي رد أو تعليق عليها، بالرغم من أنها كانت مكتوبة و مسلمة مباشرة بواسطة هذا الكاتب يدا بيد داخل أروقة القصر الرئاسي.
لكن فضيلة “الصدق” هذه على أهميتها و كونها من صفات المسلم التي يفترض ألا يحيد عنها، فهي كذلك متاحة للكثيرين، بل قد توجد جنبا لجنب مع صفات مناقضة لها مما يجب أن يتبرأ منه الإنسان .. فالصدق قد يصاحبه الغرور، و قد تصاحبه الحماقة و قد يلازمه العناد و غير ذلك من الصفات الأخرى، لكن على المؤمن أن يشكر الله على نعمة الصدق التي تفيد في كشف كل تزوير و فضح كل نفاق.
أقول للدكتور نافع و للرئيس البشير: لا يجمل في شأن الحكم الاعتماد على جدال يختلف الناس حول مقدماته المنطقية .. فواقعة “رفض الأحزاب الاعتراف بصحة نتيجة الانتخابات”، على سبيل المثال، إن لم تكن كافية (لديكم) للدلالة على تزوير الانتخابات، فهي كافية بالإجماع (لديكم و لدى القوى السياسية الأخرى) للدلالة على أمر آخر غاية في الأهمية، و هو “عدم رضاء” هذه القوى السياسية عن العملية الانتخابية و التشكك في صحتها و اعتبارها تزويرا لإرادة الشعب .. و لا يهم من بعد أن يكون التزوير ثابتا بالدليل الدامغ أم لا، بل يكفي هذا الشك و “غياب الرضا” المطلوب بين القيادة و القاعدة في أي نظام حكمي، لأن ذلك هو أُسّ الاستقرار، الذي هو استقرار نفسي، أولا، بقبول الآخر، و استقرار في سائر أوضاع البلاد، ثانيا، كنتيجة للمساهمة الفاعلة التي ستصدر عن هؤلاء الراضين بالنظام الحاكم.
و رب قائل إن التفويض الشعبي (بافتراض صحة الانتخابات) يُغني عن رضا الأحزاب، و لكن إذ يصدر التفويض الشعبي عن الشعب، فالأحزاب إنما هي واجهات أيضا لهذا الشعب، و دونكم الأرقام (الرسمية) لنتائج الانتخابات العامة، المتعلقة منها بجملة الأصوات التي نالها رئيس الجمهورية، أو جملة الأصوات التي شاركت في الانتخابات و التي لم تشارك و الأصوات التي ذهبت لتأييد منافسي الرئيس البشير من مرشحي الأحزاب الأخرى و المستقلين .. حيث لا يجوز إهمال (جميع) المواطنين الذين لم يدلوا بأصواتهم، أو إهمال جميع المواطنين الذين يؤيدون الأحزاب الأخرى مجتمعة .. و لكي يستقر الحكم في السودان لابد من احترام هذا العدد الكبير الذي يمثل الأغلبية، حتى في حال افتراض صحة الأرقام الرسمية للانتخابات الماضية.
لمثل هذه المعاني تجد الفائزين، في أي انتخابات في البلاد ذات التجارب العريقة في التمثيل الديمقراطي، يتوجهون فور إعلان فوزهم إلى “جميع” مواطنيهم بالتحية، و يخصون الذين لم يصوتوا لاختيارهم بوجه خاص، يعلنون أنهم في خدمتهم كما في خدمة الذين صوتوا لاختيارهم. تلك هي تقاليد الاحترام المتبادل في حراك المجتمعات السياسية.
سيكون أجمل قرارات الأمة و أفضلها، بل و أبقاها و أنفعها للناس، تلك التي تصدر عن إجماع الغالبية المريحة، أو التي يرضى عنها الجميع، بسبب رضاهم عن سير الآلية التي تم بها احتساب هذا الإجماع، ذلك لأن الرضاء بنزاهة القاضي مثلا يؤدي إلى قبول المحكوم عليه بقرار القاضي، قبولا رضائيا يفضي إلى إنهاء الخصومة و تنظيف النفوس و تطييب القلوب.
لقد كان سيد البشر المصطفى صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه و هو المسنود بوحي من السماء، يهديه و يهدي أمته من بعده إلى الطريق المستقيم .. و مع ذلك كان يستشيرهم “تطييبا لقلوبهم” كما جاء في تفسير المفسرين لآيتي الشورى في سورتي المائدة و الشورى .. و يحكي الصحابة رضوان الله عليهم عنه صلى الله عليه وسلم أنه “… كان يتخوَّلنا بالموعظة في الأيام مخافة السآمة علينا” (أي السأم) .. فإذا كان عليه السلام، و هو من هو، يُعنى بتطييب قلوب أصحابه و يتخوّلهم بالموعظة ترفقا و تلطفا حتى لا ينالهم السأم و الملل (ممنْ وجهه مشرقٌ بنور النبوة)، فما بال حكام اليوم و هم مَنْ خَبِرنا و عرفنا، ممن استنَّ النبيُّ الكريمُ هذه السنة ليراعيها أمثالُهم من الحكام حتى لا يسأم الناس منهم و يضجرون؟ إن هذه الإشارات النورانية القديمة الراسخة إنما هي بذور لمدارس كاملة في الحراك الاجتماعي السياسي و إدارة العلاقات المجتمعية.
تلك، بجانب قيم الحرية و العدل و القسط و نظافة اليد، بعض من أسس الإسلام في إدارة الحكم، و خطاب الناس، و سياسة الدنيا، و حراسة الدين و القيم النبيلة.