الجدل الدائر حول الانتخابات السودانية المقبلة
الانتخابات مرحلة من مراحل العمل الديمقراطي، ولكنها لا تكون بديلا عن الديمقراطية ذاتها، بكون الديمقراطية مؤسسة متكاملة أساسها الحكم الشرعي والتوافق الشعبي على اختيار من هم قادرون على تحقيق ما يريده الشعب في إطار المؤسسات وحكم القانون، ولكن لا يبدو أن هذا الفهم متعارف عليه في العالم العربي إذ حتى لوكان هناك حكام يدركونه فهم لا يريدون التعامل معه، ذلك أن معظم المتنفذين في الحكم يستهدفون بالانتخابات أن تعطيهم شرعية يواصلون بها نفوذهم حتى لو كانوا يمارسون سائر الأفعال المتعارضة مع حكم القانون.
وتقودني هذه المقدمة إلى النظر بموضوعية في ما يجري على الساحة السودانية، ذلك أن الحكومة في السودان مصممة على أن تجري انتخابات عامة في الحادي عشر من الشهر المقبل وسط خلافات كبيرة من أحزاب المعارضة وبعض الفصائل في جنوب السودان ودارفور التي لا تطالب بإلغاء الانتخابات من حيث المبدأ بل فقط بتأجيلها حتى تتوافر لها الظروف المناسبة، وذلك ما ترفضه الحكومة وتعتبره تدخلا تفرضه عناصر خارجية لا يحق لها أن تتدخل في شؤون البلاد.
ومن وجهة نظري فإن مجرد إعلان انتخابات تعددية في السودان يثير في نفسي تساؤلات هي نفسها التي يدور حولها الخلاف في الوقت الحاضر، إذ كيف يمكن أن تجرى انتخابات تعددية في بلد مازال يحكم من الناحية النظرية بنظام عسكري يهدف إلى تحقيق أيديولوجية سياسية معينة، ولا أريد هنا أن أحدد موقفا من النظام ذاته لأن هدفي هو أن أقيم المنطق الذي تقوم عليه قضايا الخلاف في الوقت الحاضر. ولا يستند هذا المنطق على ما أعتقده من ناحية شخصية بل يستند على المواقف التي بدأت تظهر كرد فعل لإصرار الحكومة على إجراء الانتخابات في موعدها.
ونبدأ في أول الأمر بما اعتبره مواجهة بين حزب المؤتمر الحاكم وأحزاب جوبا، وهي الأحزاب التي تشكل بنية المعارضة الأساسية في البلاد. فقد قدم هذا التحالف مذكرة للحكومة يطالبها بتأجيل الانتخابات إلى شهر تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، وذلك رأي لم تسانده الحركة الشعبية في جنوب السودان التي تعقد حلفا مؤقتا مع الحكومة وتركز اهتمامها الأساسي على وصولها إلى مرحلة الاستفتاء المقرر إجراؤه في شهر كانون الثاني/يناير من العام المقبل. إلا أن ياسر عرمان مرشح الحركة لمنصب الرئاسة طالب في الوقت ذاته الرئيس البشير بأن يسحب ترشيحه للمنصب زاعما أن عدم الاستمرار في ذلك سيعزز خيار الجنوبيين للوحدة عند إجراء الاستفتاء المقبل ولم يحدد عرمان لماذا يقف انتخاب البشير عقبة في استمرار الوحدة، والأرجح هو أن عرمان يريد أن يبعد البشير من طريقه حتى يسهل وصوله إلى منصب الرئاسة بدعم من أصوات الجنوبيين التي تزيد عن أربعة ملايين صوت.
وإذا كانت هذه مسألة شخصية فلا شك أن أحزاب التحالف تركز على جوانب موضوعية في نقدها لمفوضية الانتخابات ومطالبتها بجو من الحريات العامة قبل اجراء الانتخابات وكذلك تشكيل حكومة قومية لأن ذلك في نظرها سوف يوفر الظروف الملائمة لانتخابات حرة، وما يهدف إليه التجمع هو تفكيك النظام القائم قبل إجراء انتخابات عامة، وهو بالطبع ما ترفضه الحكومة التي لها إستراتيجية أخرى إذ أنها تستهدف بالانتخابات بناء دعم شعبي واسع لسلطتها حتى تبدو في نظر العالم وكأنها تتمتع بسند وطني عريض. وذلك ما جعل الحكومة ترفض بصورة قاطعة على لسان نافع علي نافع مستشار الرئيس فكرة تأجيل الانتخابات، وقد ذهب نافع إلى الرد بعنف على القيادي في الحركة الشعبية ‘إدوارد لينو ‘المرشح لمنصب والي الخرطوم والذي طالب بأن يسلم الرئيس البشير نفسه إلى محكمة الجنايات الدولية، بل ذهب إلى أن حركته ستسلم البشير إذا لزم الأمر، ووصف نافع لينو بأنه لا قيمة له في الجنوب أو ‘أبيي’ أو السودان بصفة عامة بحسب رأيه.
ويصعب في الواقع التعرف على الأسباب التي دفعت حزب المؤتمر الشعبي بقيادة الشيخ الترابي لرفض تأييد مواقف أحزاب المعارضة في تأجيل الانتخابات، خاصة أن الترابي كان قد انشق على نظام الحكم بعد أن كان سندا أساسيا له، فهل يعني ذلك عودة المياه إلى مجاريها أم هو مجرد موقف احترازي حتى لا تتأثر الحركة الإسلامية بتراجع نظام الإنقاذ بقيادة الرئيس البشير.
ويلاحظ أن الموقف لم يقتصر على أحزاب المعارضة الداخلية، فقد وصفت منظمة هيومن رايتس ووتش الظروف في السودان بأنها غير مناسبة لإجراء انتخابات حرة ونزيهة واتهمت المنظمة الحكومة بأنها تدعم مرشحي حزب المؤتمر الحاكم في وسائل الإعلام على الرغم من أنها أعطت فرصة محدودة لمرشحي المعارضة.
ويلاحظ أن موقف الأحزاب السودانية في ملتقى ‘أيوا’ الذي أقيم في الجامعة الأمريكية في واشنطن لم يختلف كثيرا، إذ طالب باقان أموم الأمين العام للحركة الشعبية الملتقى بالخروج بتوصيات لدعم عملية التحول الديمقراطي في البلاد وقال إن الحركة الشعبية تسعى عبر ترشيح ياسر عرمان لمنصب الرئاسة إلى استعادة الدولة المختطفة، وقال زعيم الحزب الشيوعي محمد ابراهيم نقد إن أحزاب جوبا لم تتفق على مرشح واحد وهي تأمل أن البشير لن يحقق الفوز في الجولة الأولى بسبب كثرة المرشحين حتى يمكن منازلته بصورة جدية في المرحلة الثانية من الانتخاب، ووصف مبارك الفاضل المهدي النظام بأنه أقام دولة بوليسية في البلاد، وذلك وضع تسعى أحزاب المعارضة إلى إنهائه. أما علي محمود حسنين رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي ‘الأصل’ فقد وصف عملية الانتخابات بأنها مهزلة تستهدف شرعنة النظام القائم، وذلك ما دعاه للمطالبة بالابتعاد عنها.
وقال محمد آدم بخيت نائب رئيس حركة العدل والمساواة إن حركته هي الوحيدة التي لها وجود عسكري حقيقي في دارفور ولكنه لا يريد في الواقع عزل الآخرين وكان بخيت يتحدث من خلال رسالة وجهها من العاصمة التشادية إنجمينا.
ونتوقف أخيرا مع بعض الآراء التي أوردها الأستاذ فؤاد حكمت مستشار مجموعة الأزمات حول الوضع في السودان. وكانت المجموعة قد أصدرت تقريرين أحدهما عن الوضع في دارفور والآخر عن اتفاقية السلام في جنوب السودان. ولا نريد أن ندخل في تفاصيل التقريرين بل نركز فقط على ما يتصل بالانتخابات المقبلة.
يقول الأستاذ فؤاد حكمت لا توجد في الوقت الحاضر أجندة لوفاق وطني تلتقي حوله سائر الأطراف، وهو يرى أن المؤتمر الوطني يريد ٍأن يفوز في هذه الانتخابات بأي ثمن من أجل إقصاء الآخرين، ويرى أن جميع القوى السياسية لا تثق بمفوضية الانتخابات وتتهمها بعدم الاستقلالية وأن بعض عناصر الحركة الشعبية والحركات المسلحة في دارفور لا تؤمن بوجود أرضية تمهد لانتخابات حرة ونزيهة. ويرى أن المجتمع الدولي يجد نفسه في مأزق وهو غير قادر على ممارسة الضغط على الحكومة السودانية لأنه إذا طالب بتأجيل الانتخابات فإن حزب المؤتمر الوطني سيطالب أيضا بتأجيل الاستفتاء الخاص بجنوب السودان والمقرر له كانون الاول/ يناير المقبل وذلك ما لن يوافق عليه الجنوب الذي يجد نفسه مضطرا للموافقة على موعد الانتخابات الحالي حتى يتمكن من إجراء الاستفتاء في موعده، ويقول حكمت إذا قامت الانتخابات بموافقة الجنوب وإقصاء دارفور فلن تكون الحكومة المنتخبة ممثلة لجميع السودانيين، وبما أن الحكومة المنتخبة ستضع الدستور الدائم لحكم السودان فهي لن تستطيع أن تفعل ذلك إذا كان جزء كبير من البلاد مثل دارفور لا يؤيد الانتخابات ولا يشارك فيها
والمعروف أن مجموعة الأزمات كانت قد أيدت تأجيل موعد الانتخابات إلى شهر تشرين الثاني/نوفمبر المقبل أي قبل شهرين من إجراء الاستفتاء بشأن جنوب السودان، وتبرر هذا التأجيل بأنه يتيح الفرصة قبل الاستفتاء لترسيم الحدود وإيجاد أرضية مناسبة لإجراء الاستفتاء ووضع الترتيبات الأمنية والسياسية والاقتصادية لمرحلة ما بعد الاستفتاء وأيضا حل قضية دارفور بصورة نهائية ليس بالتوصل إلى حلول ثنائية مع الفصائل بل بإيجاد حل شامل لمجتمعات الإقليم التي لا تمثلها الفصائل وخاصة العربية منها.
وكما يبدو فإن الجدل سيظل مستمرا بين الذين يريدون تأجيل الانتخابات والذين يريدون إتمامها في موعدها المحدد، وكأن المسألة لا تعدو أن تكون قضية إجرائية ينظر إليها الجميع من زوايا مختلفة دون أن يركزوا على محورها الرئيسي وهو كيف تكون هناك انتخابات وطنية شاملة دون أن يكون هناك إجماع وطني على عمل مشترك، ذلك أن العناصر التي تعارض الحكومة لا تريد أن تمنحها شرعية الاستمرار من خلال التحكم في مفوضية الانتخاب والسيطرة على مراكز النفوذ، كما أن الحكومة لا تريد أن تجد نفسها في وضع تهتز فيه سلطتها في وقت لم يقرر فيه النظام أن دوره قد انتهى. ذلك هو الوضع في السودان بصفة عامة، وهو وضع لا يبدو أن مشكلته الأساسية في الوقت الحاضر هي إجراء انتخابات عامة بل مشكلته هي أن يحدث توافق وطني يقرر فيه الجميع أنهم يريدون أن يعيشوا في إطار دولة موحدة وذلك قبل أن يفكروا في تحديد الوسائل الديمقراطية التي يحكمون بها بلادهم.
‘ كاتب من السودان
القدس