في حوار حصري.. الشيخ حسن الترابي يكشف للشروق
لم أفتح معسكرات تدريب لعناصر “الفيس” ورؤيتهم للدولة الإسلامية سطحيةحاوره في الخرطوم: مصطفى فرحات
الترابي يتبرأ من دعم الفيس سألتُ بعض قادة الإنقاذ عن مسائل مصيرية فدلت إجاباتهم على قصورهم الفكري
لو فتحنا باب الحرية أمام الشعوب لاختفى الإرهاب
يُعتبر الشيخ حسن الترابي إحدى أكثر الشخصيات الإسلامية المثيرة للجدل على أكثر من صعيد.. فهو من أبرز مهندسي الدولة الإسلامية في السودان، ومع ذلك رفض نتائجها واعتبرها خروجا عن الإسلام ذاته وتشويها له، بما استدعى انقلاب رفقائه عليه وإيداعه السجن أكثر من مرة. وهو المعارض الشرس الذي لا يتوانى عن إبداء آرائه ولو رآها النظام السوداني خيانة قومية وعمالة لقوى أجنبية.
وهو المفكّر الذي صدم العالم الإسلامي بجملة من الفتاوى الدينية التي تُعتبر خروجا عن موروثه الذي أصله العلماء منذ قرون، بما استدعى تبديعه، وأحيانا تكفيره، وهو يعتبر أن ما يقوم به من المقاومة الفكرية “خطوة ضرورية لتجديد معالم الإسلام الذي مات في قلوب أبنائه”.. ومع ذلك لم تشفع له هذه المواقف “التنويرية” لدى الغرب الذي لا يزال يعتبره رمزا من رموز “الأصولية” و”الإرهاب”.
التقيناه في بيته بالخرطوم، وحاولنا أن نستطلع آراءه حول كثير من القضايا المرتبطة بالواقع السوداني، وعلاقته بالجبهة الإسلامية للإنقاذ، وموقفه من الإرهاب وتصوره لطبيعة التجديد داخل الحقل المعرفي الإسلامي.. فكان هذا اللقاء.
ما هو تشخيص الشيخ الترابي للوضع السياسي في السودان؟
السودان ليس قوما لهم تراث مشترك وتاريخ يمكن أن يَنْظِم حياتهم في سلك واحد، وما هو بقُطر له تاريخ قُطري، حتى إن الدولة سميت “السودان” التي هي في الأصل جمع كلمة “أسود”، وهذه التسمية كانت تمتد في المفهوم إلى مالي عندكم في الشمال الإفريقي، ولئن عادت بعض الدول في التسمية إلى أصولها إلا أن مسألة الاستقلال أعجلتنا فما تذكرنا هل نرجع إلى اسم مملكة “سنّار” أو اسم دولة إسلامية قديمة أخرى.
لقد كان القادة الذين ساقونا إلى الاستقلال محررين فقط، وما دروا أن هذا الوطن نظّمه الاستعمار فقط بسطوته، وكان ينبغي أن ندرك أنه لا يمكن أن تقوم قائمة وطن ومواطنة إلا إذا أسسنا منهجا “نتواطن” عليه، ولكي نتعاقد على شيء يجب أن نكون متساوين لأن الإكراه لا يتم معه عقد وإنما تبعية، وهذا يعني أنني سأنقلب عليك في أول فرصة سانحة. فالسودان هكذا شُكل بلغاته وثقافاته، وفيه عرب وأفارقة تشكل العربية لغتهم الثانية لأن لهم لهجاتهم الخاصة (التحرير: يُسميها السودانيون: “رُطانات”)، فمستويات النماء تباينت تباينا فاحشا والفقير الذي لا يجد شيئا يحسد من يجد شيئا، وكانت مشكلة الجنوب الذي عُزل عنّا هي البداية، ومنذ الاستقلال مرة بعد مرة كانت الحروب تستعر ثم تهدأ، غير أنهم غلبونا على الجنوب بالقوة الآن بعدما استنصروا بالأفارقة والغربيين، فالجنوب الآن شبه مستقل ولا شيء يربطنا معهم إلا اسم الدولة الواحدة، ولا يستطيع وزير أن يذهب إليهم إلا بإذنهم، ولا يمتد إليهم أي طريق نهري أو بحري أو بري، فالرابط بيننا وبينهم هو الخط الجوي، وقد أعطيناهم الآن حق الاستقلال، وهذا حق ديني إن كنا نزعم أننا متدينون، فالمرأة إذا كرهت زوجها تُطلق، والجبر ليس من إلا من أعراف المسلمين التي لا علاقة لها بالشريعة. وهاهم يستقبلون بعد الانتخابات القومية الاستفتاء (التحرير: الاستفتاء سيُجرى في عام 2011)، وللأسف، تكشف قراءتنا للشعب الجنوبي أن أغلبه يؤيد الانفصال، وهذا بسبب قصورنا.
كان يُفترض أنني لو ذهبت إلى الجنوب لوجدتهم من أكثر الناس كرها لي، فالغرب يُغريهم بهذا “الأصولي الذي جاء بالشريعة والجهاد”، لكن الأبواب فُتحت أمامي وتحدثت إليهم حتى في كنائسهم التي يُصلون فيها، واستعنت في حديثي معهم بنصوص الإنجيل، وتحدثتُ في المساجد والأسواق، وتحدثت مع الحكومة الجنوبية أيضا، وأرى أن جميع المشاكل معهم سويت فلا مجال لهذا الخلاف الذي تقول الحكومة القومية في الشمال إنه حاصل مع الجنوب. ثم أنت تعرف أنني لا أومن بالحدود التي تواضع عليها الاستعمار الغربي، لكنني أعمل بها ولا أعتدي عليها. والحزب الذي أنتمي إليه (التحرير: المؤتمر الشعبي) هو التنظيم القومي الوحيد في حين أن الأحزاب الأخرى هي إما شمالية أو غربية وهكذا، ولا أدل على ذلك من أن الجنوبيين مسلمين وغير مسلمين ناضلوا معنا ودخلوا السجن فنحن وهم سواء.
مشكلة الحركات الإسلامية أنها لا تضم جميع الفصائل المشكّلة للبلدان التي تأسست فيها، فالحركة الإسلامية في العراق قد لا تجد فيها كرديا أو شيعيا، لأنهم مرهونون بالتاريخ والطائفيات التي لم يستطيعوا تجاوزها.
أما قضية دارفور، فقد عاقبها الإنجليز على مواجهتها لدول الحلفاء ومساندتها للدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى وقد كانت من قبلُ دولة إسلامية مستقلة، فلم يمدوا إليها السكك الحديدية ولا الكهرباء والمياه ولا التعليم، إلا قليلا. وكما ثار الجنوب لأن توسلاتنا بحل المشكلة لم تجد صدى بسبب أن الحكام انشغلوا بكراسيهم وفتنتهم السلطة، جاءت مشكلة دارفور، والآن هناك فتنة في الشمال أيضا.
هل هذا يعني أن السودان معرض للانفجار؟
نعم، لأننا مثل “الصومال” مجموعة قبائل ولسنا قوما بني وطن واحد، فمن السهل أن يُقاتل المقاتل ثم يأوي إلى أهله وقبيلته التي تنصره وتدعمه، ولو كانت خارج حدود البلد المتعارف عليها دوليا، وهكذا.
وما هي نتائج هذا الانفجار على السودان وفق تصوركم؟
أول نتائج هذا الانفجار هو أن تفسد على الناس حياتهم، لأن العالم الآن يتكامل بعد أن كان يتناحر، ثم سيضر هذا الانفجار بسمعة الإسلام، ورغم كون هذه المشاكل قديمة جاءت مع وظهرت منذ الاستقلال، إلا أن الحكم باسم الإسلام في السودان كرّسها.
لقد كان الصوفية يرفضون الوقوف على أبواب السلاطين، ويخافون على الناس من فتنة السلطان ومن فتنة السوق. ولو قرأنا كتبنا الفقهية فلن نجد فيها شيئا عن السلطان وإنما نجد حديثا عن الحياة الخاصة للمسلمين.. من هنا فارق الدين الحكم وفارق السياسة والاقتصاد منذ انتهاء عهد الخلافة الراشدة. وهكذا اعتلى سدة الحكم قوم ليس لهم رصيد لا خُلُقي كما يقول الصوفية، ولا فقهي كما ورد في كتب الفقه، ففتنتهم السلطة، وبما أن الطبيعة لا تأبى الفراغ، فإن السلطة قامت على نفسها.. انظر إلى الأفغانيين كيف انقلبوا على بعضهم بعدما ذهب الروس، وحتى الثوار الفرنسيون بعد ثورة 1789 لما قضوا على النبلاء انقلبوا على أنفسهم، فالسلطة فاتنة لاسيما إذا كانت مسنودة بالقوة ولا ضابط أو رادع لها.
لكن هذا يجعل الناس يتساءلون بما أنكم كنتم قطب رحى معادلة الحكم الإسلامي في السودان: هل كان الشيخ الترابي مخطئا لما كان في جهة السلطة؟
أنا لا أعتبر نفسي كذلك.. وإنما المخطئون هم الذين انقلبوا عليّ. نحن كلما اقتربنا من الحكم مارس الغرب ضغوطاته على النظام السوداني من أجل منعنا والحجر علينا. مثلا لما بدأ النميري يطبق بعض أحكام الشريعة مثل منع الخمر جاء إليه الأمريكيون وطلبوا منه منعنا من الوصول إلى الحكم وقالوا له: “إما أن تقضي على هؤلاء أو يُقضى عليك”، فقضى علينا وذهب إليهم ولم يعُد. وقد مات رحمه الله. الديمقراطية قيمة عند الغرب، لكنّ القيمة الأبلغ منها هي صرف الإسلام من الوجود، ولذلك أدركنا أنه من الخطأ أن تُعلن للملأ من أول يوم أنك إسلامي، لأن الدنيا كلها ستحيط بك.. العرب أنفسهم سيكرهونك، والغربيون كذلك سيُحرّضون الناس ضدّك.
نحن دخلنا السجن كما دخل سائر الساسة، لكن لما بدأنا ننزل منهج الإسلام بدأ الخلاف بين القوة المطلقة وبين الشورى، دولة المدينة كانت شورى يتمتع فيها المنافق واليهودي بالحرية فكانوا يتكلمون في الله سبحانه وفي النبي صلى الله عليه وسلم كما يشاءون، يعني ما دام الإنسان يتكلم فرُدّ عليه بالكلام إذا لم توافقه عليه، وقد كان في المدينة “حزب الشيطان” كما في الآية: “أولئك حزب الشيطان”. حينها قلنا: لابد أن نرجع إلى أصول الدين.. علينا أن نبسط السلطة اللامركزية ونبسط الحرية اللامركزية والشورى ونقيم مثالا للإسلام، لكنّ العسكر حالوا دون ذلك واستمسكوا بالسلطة والقوة وشرعوا في فتنة الإسلاميين حيث وعدوهم بالوزارة والمال في حال سايروهم، وبالسيف المصلت على رقابهم في حال اختاروا الانحياز إلى الحق، فُفتن كثير من الإسلاميين، وهذا الذي وقع في السودان بالضبط. نحن لم نختلف على مواقع سلطة فلا يظنّن أحد أني كنت أريد أن أكون رئيسا، وقد كان يمكنني أن أكون كذلك، بل كنت أريد أن تذهب الحياة نحو الحرية والشورى، والدين كله من إمامة الصلاة إلى الإمامة الكبرى يقوم على الشورى والحرية والخيار وليس على القوة والقهر، ولا يوجد في شريعتنا عقد قائم على القهر، لا الزواج ولا التجارة، بل حتى مع الله لا يوجد عقد قائم على القهر، وقد قال الله سبحانه وتعالى: “لا إكراه في الدين”.
لقد قلنا للمخالفين: دعونا نتعايش كما يتعايش المالكية والشافعية مثلا، أو كما يتعايش القادرية والتيجانية (التحرير: من أبرز الطرق الصوفية النافذة في السودان)، لكنهم رفضوا ما إن بدأنا نتحدث عن الحق وخافوا على شرعية الشعار.. (يضحك).. طبعا هناك دول “إسلامية” بالشعار فقط.. فهم يقولون ما لا يفعلون.
وحتى لما ذهبنا إلى الجنوب وتفاوضنا مع أهله توصلنا إلى اتفاق خير من الاتفاق الذي توصل إليه النظام الذي اتهمنا بالخيانة وخرق الدستور، فضُربنا وسُجنا، لكننا تعودنا على السجن منذ فترة النُّميري، والقضاء محجوب لأن المسؤولين لهم حصانة ولا يستطيع أحد أن يمسهم ولو قتلوا وأخرجوا الناس من ديارهم، ولهذا توجهنا إلى القضاء العالمي وعرضنا عليه مشكلتنا.
وهل تعتقدون أن القضاء العالمي سيُنصفكم وهو الذي تحكمه موازين سياسية لا ترتبط ارتباطا وثيقا بالقانون ومفاهيم العدالة والحق؟
نحن لا نملك في السودان روحا وطنية متعصبة، وتوجهنا إلى القضاء العالمي كما توجه إليه النظام في الصحة والتعليم واليونسكو والتجارة الخارجية وغيرها من القطاعات، بل حتى على المستوى الرياضي نحن نستقدم اللاعبين والمدربين من الخارج، فلم التحسس من الأمر؟
أنا شخصيا أعرف القضاة ولا علاقة لهم بالسياسة، منهم الإفريقي ومن هو من لاتفيا وأمريكا اللاتينية، والمدعي نفسه من أمريكا اللاتينية (التحرير: لويس مورينو أوكامبو من الأرجنتين) وكان دائما ما يُتابع الطغاة والجُناة. نحن ليس لدينا حصانة قضائية لا للنبي صلى الله عليه وسلم ولا للخلفاء ونحن نعرف جيدا تاريخ ديننا، وعندنا كذلك عهود وعقود علينا الوفاء بها.. صلح الحديبية لم يرفضه النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لم يكن عادلا، فقد كان مُحتاجا لهذا الصلح وإن ورد فيه أن من جاء مؤمنا إلى المدينة رُد إلى قومه، ومن هرب من المدينة تُرك ولم يُرد إليها، ثم جاءت التجربة مباشرة بعد التوقيع على الاتفاقية، ومع ذلك رفض النبي صلى الله عليه وسلم الغدر، ونحن كذلك ملزمون بالأمم المتحدة، وقد قالت لنا: اذهبوا إلى محكمة الجنايات الدولية وأنتم ملزمون بالتعاون معها.. وكون السودان ليست عضوا فيها لا يُعتبر حجة، فلا يمكننا أن نهدم الدنيا ونقتل العالم بحجة أننا لسنا أعضاء في محكمة الجنايات الدولية، وهل هذا يمنحنا صفة البراءة؟ “كلا”! فقلنا لهم: ليذهب منكم أحد ويدفع عن نفسه فربّما يُبرّأ، والله يأمرنا فيقول: »يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ«، فمهما كنت قريبا مني إلا أن القضاء أقرب إليّ منك.
وهل تريد أن يمتثل الرئيس عمر البشير أمام محكمة الجنايات الدولية؟
أنا والله مؤمن بالعالمية لأني مسلم، والمسلمون لا يعرفون عصبية قومية أو قُطرية تحبسهم أصلا، والدين ذاته يعلمنا أن نتعامل مع غير المسلمين ولا نفرض عليهم الجمارك إلا إذا فعلوا ذلك معنا، ولا نقاتلهم إلا إذا بدأونا بقتال. وأعتقد أن القضاء العالمي عادل، لهذا على الرئيس السوداني أن يمتثل أمام محكمة الجنايات الدولية. الرئيس نفسه لجأ إلى محكمة العدل الدولية بلاهاي في هولندا للتحكيم في قضية الجنوب، فكيف تصبح لاهاي بعضها خير وبعضها شر؟ وهل يُعقل أن تكون خيرا لما تحكم لي وتتحول إلى شر لما تحكم عليّ؟ !
هذا يعني أنك تعتبر الرئيس السوداني متورطا في ما حدث من جرائم في دارفور حتى تطالبه بالامتثال لمحكمة أوكامبو؟
أنا رجل قانوني وأثق في عدالة القضاء.. من الناحية القانونية أنا لا أحكم عليه، ولكن من الناحية السياسية أنا أحكم عليه وأعتبره مسؤولا عن كل ما جرى في دارفور.. في مجال السياسة، إذا كنت وزيرا، مثلا، سوف تُطرح عنك الثقة وتُصرف لا لفعلك المباشر فقط، بل بسبب ما يجري في وزارتك، فالرئيس السوداني حصل في حكومته وفي سلطانه بدارفور ما لا يتصوره عقل.. هل سمعتم بمسلمين في بلدهم المسلم ينتهكون أعراض البنات بالمئات إلى أن تموت المسكينات؟ هل سمعتم بنحو 2000 قرية تُحرق تماما بالطائرات ليس فيها متمرد واحد؟ هل سمعتم بـ4 إلى 5 مليون شخص بعضهم لجأ إلى المدن وبعضهم لجأ إلى المعسكرات بسبب ما يحدث في دارفور؟ هذه جرائم منكرة، خاصة إذا قام بها من ينتسب إلى الإسلام.
البعض قد يقول إن الخصومة بين الترابي والبشير تقودك إلى إبداء مواقف ضد مصالح السودان؟
هذا ليس صحيحا، فنحن لا نعرف خصومة مع أحد.. والغرب يحرّض النظام هنا عليّ بدعوى أنني خطر.. أنا لا أربط أحكامي بالعداوة والصداقة وإنما أربطها بالحق، ثم زيادة على كوني رجل قانون فأنا رجل درست الشريعة وأحفظ القرآن وكتبت في قضايا السياسة والحكم عدة كتب. لقد سجنني النميري قبلهم سجنا طويلا، لكن صالحتْه البلاد على أن يسير نحو الديمقراطية وصالحته أنا، لكنه انقلب عليّ مرة أخرى وأدخلني السجن.
هل يعني هذا أنك مستعد للمصالحة مع النظام السوداني الحالي؟
أكيد.. نحن لم نختلف على الكراسي والمناصب وإنما على المبادئ، فلا يمكن أن تقوم دولة إسلامية على نموذج خطأ، لا توجد الآن دولة إسلامية، ظننا أن إيران ستكون نموذجا لكنها اتجهت نحو خيار السلطة المطلقة كما يفعل البابا مع الكنائس.. نحن أردنا أن نقيم نموذج دولة إسلامية تكفل الحريات للمسلمين وغير المسلمين، لأننا عهدنا الانتخابات قبل أن يعهدها الغرب بألف سنة، فلكل أحد أن يقول ما يشاء ولنا أن نرد عليه بالكلام وليس بشيء آخر.
فالشرط الأول من أجل التصالح مع نظام البشير هو أن يُرسي معالم الحرية في المجتمع، والشرط الثاني أن يتحول نظام الحكم إلى شورى، فلا يتسلط أحد علينا بالقهر والقوة، ثالثا: العهد، فقد اتفقوا مع الجنوبيين وخانوهم، والآن هذه الاتفاقية كثير من نصوصها أهملتها الحكومة.. إنهم يقسمون على الدستور ثم يخونونه ويتهمونك أنت بمخالفته، حتى ولو كنت أنت من كتبه وتلتزم بمحتواه أكثر منهم. الشرط الرابع: الطهارة، فحتى النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يتصرف في مال الأمة وفق رأيه الشخصي فقط، وقد نبّه الله إلى هذا إذ قال: “وما كان لنبيّ أن يغُلّ”، وهنا نرى الوزراء بنوا البيوت والعمارات وكثّروا الزوجات، ونحن إن لم نكن أفسد دول العالم فنحن في المجموعة الأخيرة على قائمة الفساد.
لو قام النظام بإصلاحات في هذه القضايا، ستكون بيننا مصالحة، بل وحدة كاملة.. إن الخلاف ليس نابعا من المصالح والمكاسب.. إنه خلاف على المبادئ، وقد تحدثت معهم كثيرا في هذا الموضوع.. نحن لا نريد أن نُسيء للإسلام لاسيما وأن السودان هو أول دولة إسلامية سنّية، فلما تبرز للوجود تبدو بمظهر الدكتاتورية المطلقة التي تُمزّق بلدها بنفسها، وتقمع الحريات الإعلامية والسياسية.. ثم يُنسب ذلك للأسف للإسلام.
ننتقل إلى موضوع الجزائر، حيث يرتبط اسمكم بانحرافات الجماعات المسلحة ويتهمكم كثيرون عندنا بأنكم فتحتم معسكرات تدريب لجماعات مرتبطة بالجبهة الإسلامية للإنقاذ بعد توقيف المسار الانتخابي، وعلى هذا الأساس تدهورت العلاقة بين الجزائر والسودان.. هل هذه المعطيات صحيحة؟
لا أبدا.. هذا الأمر غير صحيح بالمرة.. وحتى وإن تحدثنا عن مد إسلامي عالمي فعلينا أن نُدرك أن الإسلام لا ينتشر بالقوة والكُره والحقد، ولو كان همنا تدريب الجماعات لبدأنا بتشاد وإثيوبيا، أما الجزائر فهي أصلا بعيدة ولا ارتباط جغرافي بها، فكيف يحدث هذا؟ هذا كله جاءنا من الإعلام الغربي الذي ينشر الكذب والتضليل.
يُقال أيضا إن الجبهة الإسلامية للإنقاذ وجدت مرتعا خصبا في السودان، ووفرتم لها الدعم والرعاية، ما تعليقكم؟
هذا غير صحيح أيضا.. وهو من مبالغات الغرب فيما يتعلق بنا، هم يظنون أنني مثل البابا أملك سلطة على الجميع في السودان، ولهذا لما جاء بن لادن للسودان مستثمرا وبنى طريقا ومطارا وبدأ في الاستثمار الزراعي حذّرني الغرب منه وقالوا إنه خطر على السودان وعلى السعودية، فقلت لهم: دعوه يستثمر فهذا خير لكم من أن ينشغل بأشياء أخرى، وهذا رغم أني لم أدعه للسودان ولا قابلته قبل أن يأتي إلى السودان.
المهم أن التضخيم الغربي في حقنا كان كبيرا جدا ولا علاقة له بالواقع، وأنا لم أفتح لا معسكرات لدعم العمل المسلح في الجزائر ولا لغزو أوروبا. ثم متى كان للسودان ثروة حتى يدعم جبهة الإنقاذ أو غيرها بالسلاح، نحن لسنا أثرياء مثل الجزائر.. السودان بلد فقير فكيف يدعم تنظيمات مسلحة تهدد أمن الدول.. وهذا أيضا لا يتماشى مع قناعاتي.
أنا مطلع على ما حدث للجزائر، وأشير هنا إلى أن المغرب العربي موصول بأوروبا، وهو يتعرض للتحديات الأوروبية، ولهذا فإن فهمه للإسلام والدين أقرب إلى فهمي أنا من فهم المشرق للدين.. إن المشرق بعيد عن الغرب ولهذا فهمه للدين قديم ولا يشعر بالتحديات الجديدة حتى يصوّب عليها الهدي الإسلامي.
وكيف كانت نظرتك الفكرية والسياسية للجبهة الإسلامية للإنقاذ وقد زرت الجزائر والتقيت بقيادييها؟
عندما كنت طالبا في بريطانيا أيام الثورة الجزائرية ساهمتُ في تأسيس جمعية إسلامية لنصرة الجزائر.. ثم زرت الجزائر أيام الجبهة الإسلامية للإنقاذ بعد نجاحهم في الانتخابات البلدية، وصليت بالناس خطيبا في أحد مساجدها، واقتربت من الوضع من أجل فهمه.
أدركتُ أن الدافع الديني هو الذي نهض في الجزائر مرة أخرى، والمساجد كانت تضيق بالناس حتى في صلاة الفجر، وهذا لم يحدث في أي بلد إسلامي آخر. التقيت بقيادات الإنقاذ حينها وكانوا نجحوا في الانتخابات البلدية، وكان من المتوقع أن يفوزوا في التشريعيات، وسألتهم: إذا حكمتم في الجزائر ماذا ستفعلون بالمرأة؟ فاختلفت الإجابات. ثم سألتهم: ماذا تفعلون بالبترول، وبفرنسا، وبدول الجوار والدول الإفريقية؟ كيف تبنون الاقتصاد وكيف تُسيرون الإدارات؟ لكن لم أجد جوابا لهذه المسائل.. القضية في تلك الفترة كانت تشبه حال المسلم الجديد الذي شهد أن لا إله إلا الله ولا يعرف الصلاة ولا سائر الأحكام الشرعية.. حينها أدركتُ أن قيادات الإنقاذ لديهم قصور فكري. ومن جهة أخرى، فقد حدثني بعض الغربيين أثناء تجربة الإنقاذ وقالوا لي: لن نسمح بقيام حكم إسلامي على أبواب أوروبا.
وماذا عن الانحراف الذي انزلقت فيه بعض الجماعات الإسلامية بما أداها إلى تبني خيارات العنف والاغتيال والتفجير؟ ومن المستفيد من الإرهاب الذي يرفع لواء الجهاد؟
يسألني الغربيون كثيرا عن الإرهاب، وأنا أقول إنه من نتائج السياسات الغربية الخاطئة، وأنا أنصح الحكام قائلا: ابسطوا الحريات وسوف يتلاشى الإرهاب..ولو تحدثنا إلى أولئك الشباب بلغة العقل والحكمة ففي اعتقادي سيستجيبون ولن يكونوا “صمٌّ بكمٌ عُميٌ”.
الإسلام هو أول متضرر من سلوك الجماعات المسلحة التي تفعل ما تفعله باسم الإسلام، والغرب يحب النموذج المتطرف في الشباب المسلم لأنه يعطيه ذريعة للتنفير من الإسلام والتحذير منه على أنه دين متوحش ورجعي ومتخلف، في حين أن الدين ينتشر بالحكمة لا بالقوة والاغتيالات. ماذا كسب الإسلاميون الذين قتلوا السادات: لاشيء.. هذا خطأ منكر.. ثم لماذا اللجوء إلى القتل في حين أن الله يعلمنا في النقاش مع الآخرين الجدال بالتي هي أحسن. لو فتح باب الحرية للشعوب، لحوصرت الجماعات المسلحة ولو نشروا دعوتهم لوجدوها بائرة وغير رائجة، فالحرية تضطر أولئك إلى تعديل أفكارهم.. أغلب الحركات الإسلامية تتحرك بالعاطفة فقط، والعاطفة تعطيك طاقة هائلة لكن بلا هداية، وهذه الحركات أصبحت الآن تبحث عن هوية مختلف تستهدفها بدعوى الكفر، وإذا انتهت منه لا تدري بعد ذلك ما تفعله.
عند الحديث عن الشيخ الترابي مفكرا، فإننا نستحضر كثيرا من الآراء الشرعية التي تصطدم بالموروث الديني واستدعت نقد كثير من النخب الشرعية في العالم الإسلامي، ومن ذلك زواج المسلمة بالكتابي وضوابط التعامل مع السنة النبوية وإمامة المرأة للرجال وإنكار عذاب القبر وغيرها.. فلم هذه الجرأة التي تصدم جماهير النخب الإسلامية؟
الجرأة شيء يهبه الله للإنسان، وأنا درست وفق الطريقة التقليدية مختلف التخصصات الشرعية، فلقد كان والدي قاضيا، والسجون منحتني فرصة تعميق دراساتي في تفاسير القرآن وغيرها، ودرست في الغرب أيضا وتعلمت كل ابتلاءات الحياة الحديثة خيرها وشرها، وكل الفتن، والنبات لا ينمو إلا بالمقاومة، وهذه طبيعة الحياة والنبوات والحركات، فابن تيمية كان يُسمى “الضال المضل” عند كثيرين بسبب آرائه (المحرر: يقصد الترابي أنه اعتُبر بعد ذلك مجددا وصاحب مدرسة كبيرة)، فلابد لمن يتصدى للناس أن يتصدى للمخاطر. بعضهم يقول إنني تزندقت، لكنني أحفظ القرآن أكثر مما يحفظوه، وأعرف تاريخ الإسلام أكثر ممن يرمونني بالقذائف، والغربيون لا يحبونني أكثر.
هذه مفارقة مهمة.. فالموصوف برأس التطرف لدى الغرب يتعرض إلى التكفير والتبديع لدى بعض المسلمين، فكيف تجد نفسك وأنت على “الأعراف”؟
العالِم والشيخ التقليدي لا يُزعجان الغربيين ولا يُشكّلان خطرا عليهم، لكن المجدّد هو مصدر التهديد، والسلفية قامت لمكافحة خرافات التصوف والتعلق بالماديات كالقبور والمشايخ، لكن الأفكار لدى المسلمين أصبحت ميتة ونسوا الآخرة التي تولد الفكر والطاقات.. وانحصر الفكر في عذاب القبر مع أن القرآن لا يوجد فيه شيء يُسمى عذاب القبر (التحرير: مذهب جماهير العلماء إثباته لوروده في السنة النبوية الصحيحة)، وأصبحوا كُسالى ينتظرون المهدي ونزول عيسى عليه السلام وتركوا العمل والسعي من أجل التغيير.
لكنّ ما تُنكره ورد في أحاديث نبوية صحيحة رواها البخاري ومسلم..!
هذه روايات كتبها أعاجم ولا يؤمن فيها التغيير والتبديل، ولو أرسلت رسالة في قسم إلى طالب وطلبت منه تمريرها إلى باقي الطلبة لتغير تغير شبه كليّ.
هذا يفتح الباب أمام إلغاء السنة النبوية من قائمة مصادر التشريع الإسلامي، وهو منفذ خطير، فكيف ستتعامل معه؟
أنا لا أنكر أن السنة مصدر من مصادر التشريع، لكن بضوابط، وأولها أن لا يتعارض الحديث مع القرآن، ولسوء الحظ أن مصطلح الحديث بشكله القديم لا يزال هو الموجه لعلوم السنة الآن.. لماذا لا ننشئ علم مصطلح جديد؟ ثم لماذا نبقى عالة على الأسلاف وما ترك آباؤنا من قبل.. علينا وفق هذا المنطق أن نعيش في نفس بيوتهم ولا نبني بيوتا جديدة، وأن نركب الدواب ولا نسافر بالطائرات. وقد قال القرآن الكريم: “وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل”.. هل يقول أحد إن المطلوب هو رباط الخيل على الإطلاق فلا حاجة لنا لإعداد آلات القتال والأسلحة الحديثة؟ الاقتصاد ضل تماما عن هدايات الدين، والنهضة العلمية والفنية انهارت تماما، والعقل جُمد، وحتى علوم الدين جُمّدت، فكيف نتوقع أن ننهض؟ ثم إن نصف الأمة العربية مشلول، فالنساء يُتخذن للإنتاج الجنسي والطبخ فقط.. ثم اخترعوا من الأحاديث والروايات ما يدعم أعرافهم. لقد اعترضنا على هذا الفكر، ولكن ليس باسم الليبرالية الغربية حتى تخرج النساء بغير حشمة، نحن نطالب بإشراك النساء كما كنّ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم: في التجارة والحرب والشورى وغير ذلك من أمور الحياة. فأنا رفضتُ هذه الأشياء حتى تتجدد صلة المسلمين بأعظم منحة إلـهية، وهي العقل.