البشير ..خيارات البقاء أو الرحيل
أسماء الحسينى
[email protected]
حينما قام الرئيس عمر البشير “العميد ” آنذاك بإنقلابه عام 1989على الحكم الديمقراطى تحت مسمى ثورة “الإنقاذ الوطنى “ قال فى أول خطاب له لتبرير إنقلابه ” أيها الشعب السوداني الكريم إن قواتكم المسلحة المنتشرة في طول البلاد وعرضها ظلت تقدم النفس والنفيس حماية للتراب السوداني وصونا للعرض والكرامة . وترقب بكل أسى وحرقة التدهور المريع الذي تعيشه البلاد في شتى أوجه الحياة ، وقد كان من أبرز صوره فشل الأحزاب السياسية في قيادة الأمة لتحقيق ادني تطلعاتها في صون الأرض والعيش الكريم والاستقرار السياسي ، لقد تدهور الوضع الاقتصادي بصورة مزرية وفشلت كل السياسات الرعناء في إيقاف التدهور ناهيك عن تحقيق أي قدر من التنمية.. يخاطبكم أبناؤكم في القوات المسلحة وهم الذين أدوا قسم الجندية ألا يفرطوا في شبر من ارض الوطن وان يحافظوا علي البلاد و سكانها واستقلالها المجيد وقد تحركت قواتكم المسلحة اليوم لإنقاذ بلادنا العزيزة من أيدي الخونة والمفسدين لإيقاف التدهور المدمر ولصون الوحدة الوطنية ومنع انهيار كيان الوطن وتمزق أرضه ومن اجل إبعاد المواطنين من الخوف والتشرد والجوع والشقاء والمرض “.
..وإذا كانت هذه الأسباب هى التى دعت البشير الذى اعتبر واجهة لحكم الحركة الإسلامية السودانية للإنقلاب على الحكم الديمقراطى فى بلاده ،فإن نظرة مقارنة لما كانت عليه الأوضاع فى السودان وما آلت إليه ،ومقارنة الوضع الحالى للسودان بالأهداف التى رفعها البشير أسبابا لإنقلابه يتضح أن أيا من أهداف البشير لم ينفذ أو يتحقق ،وأن الأمور سارت إلى خلاف ما أعلن ،فوحدة البلد التى تعهد بالحفاظ عليها ضاعت بإنفصال الجنوب ومازالت مهددة بمزيد من الإنفصالات،والحروب التى تعهد بإطفائها اشتعلت فى كل أطراف السودان فى دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق وشرق السودان ،والآن يواجه النظام مظاهرات وإحتجاجات تسعى لإسقاطه فى أنحاء الخرطوم وسائرالولايات ،والأوضاع الإقتصادية تدهورت بصورة مريعة ،والجوع والخوف والشقاء استشرت بصورة أكبر ،والفساد صار أكثر توحشا والقمع الأمنى أصبح أشد ضراوة ،وإستقلال القرار الوطنى صار وهما فى ظل وجود عشرات الألوف من الجنود الدوليين فى أنحاء السودان ،والقرارات والعقوبات الدولية وقرارات المحكمة الدولية التى تلاحقه وتلاحق قياداته .صحيح أن مشكلات السودان لم يخترعها حكم الإنقاذ أو الرئيس البشير ،لكن الصحيح أيضا أنها تفاقمت فى عهده وجلبت مزيدا من التدخلات الأجنبية ،وعمقت الإنقسامات وزادت رقعتها واتخذت مزيدا من الطابع العرقى والدينى ،مما زاد الأمور تعقيدا.
والحكام فى منطقتنا صنفان ، منهم من وصل إلى السلطة فعاد ليسلمها مرة أخرى إلى الشعب وهم قلة قليلة ،ومنهم من يستمر فى الحكم حتى يتذكره ملك الموت ويتوفاه الله ،ومؤخرا اجتثت الثورات العربية عددا من الزعماء العرب ،منهم من تولى هاريا ،أو من تنحى طواعية وحوكم ،ومنهم من قتل أو حرق .أما الرئيس البشير الذى بقى فى سدة الحكم فى السودان 23 عاما بالتمام والكمال فى أطول فترة حكم لرئيس سودانى فإن الخيارات تبدوصعبة أمامه وأمام شعبه بل وحزبه وحركته الإسلامية التى حكم باسمها ،فليس سهلا عليه أن يترك السلطة ،وليس سهلا عليه كذلك أن يواصل حكمه ،حيث أصبح الرجل فى خيارات صعبة للغاية ،بعد حكم المحكمة الجنائية الدولية ،الذى اتهمه بارتكاب جرائم حرب وضد الإنسانية وإبادة فى دارفور ،فهذا الحكم لايدع للبشير وحزبه مجالا للتنحى، لكى لايصبح بعدها مطاردا من المحكمة بعد أن تسقط عنه الحصانة التى يمنحها له منصبه ،والتى يبدو أن القوانين الدولية لم تعد تعترف بها ،والواقع أن قرار المحكمة يحكم الخناق على السودان كله ،الذى تضاعفت معاناته وحصاره بعد صدوره .
وكانت قد لاحت أمام الرئيس البشير فرصتان عظيمتان من قبل لم يستغلهما ،الأولى كانت عام 2000 حينما حدث الخلاف بينه وبين عراب الحركة الإسلامية فى السودان الدكتور حسن الترابى أو ماعرف بالمفاصلة والتى أدت إلى خروج الترابى من الحكم ،كان وقتها بإمكان البشير أن يبدأ بداية جديدة لحكمه الذى استخدم فى سنواته الأولى الأساليب القمعية العنيفة وبيوت الأشباح لمطاردة معارضيه ، لكن البشير استخدم هذه الورقة فقط لتلميع صورته الخارجية وانفتاح داخلى محدود ،ثم لاحت الفرصة الثانية فى عام 2005 بتوقيع إتفاقية السلام بشأن الجنوب ،لكن هذه الفرصة تم تضييعها أيضا وتضييع وحدة البلد معها ،وقد بدأت بالتزامن معها المشكلات فى دارفور التى اعتبر مسئولا عنها .
ولعل أكبر أخطاء البشير هى عجزه عن إقامة توافق داخلى ومصالحة وطنية كان يمكن أن تجنب السودان كثيرا من الأزمات والكوارث التى تعرض لها ،والآن تكاد كل قطاعات الشعب السودانى تتطلع إلى تغيير فى شكل وطبيعة الحكم الحالى الذى تحمله مسئولية كل مالحق بالبلد ،وكثير من الإسلاميين فى السودان يطالبون أيضا بهذا التغيير ،والجميع يعتبر أن السودان اليوم فى خطر حقيقى ،وأنه سيظل فى دائرة الخطر مالم يكن هناك تغييرا جذريا حقيقيا يستجيب لحجم المخاطر والتحديات الراهنة ،وكثيرون يخشون أن يكون التغيير عنيفا على غرار النموذج الليبى ،إذا لم يبادر النظام الحالى للتغيير بيده لا بيد عمرو ، لكن تظل قضية المحكمة الجنائية التى تطارد الرئيس البشير معضلة كبيرة تنتظر حلا .