أثارت زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الأخيرة إلى السودان، الكثير من الجدل، داخل السودان وخارجه. ونسبة لحالة الشد والجذب الشديدة، التي تعتري العلاقات السودانية السعودية، والسودانية المصرية، في هذه الفترة، وبروز كلٌّ من إيران وتركيا كلاعبين رئيسين في شؤون الإقليم، وبروز محاور عربية جديدة، فقد تزايدت حدة اللهجة اللاذعة، الناقدة للزيارة. ويلاحظ أن هذا النقد اللاذع جاء، من جهة الصحافة الموجهة حكوميًا، في كل من المملكة العربية السعودية ومصر، اللتين تمثلان رأس أحد هذه القطبية الجديدة.
يُلاحظ، في ذات السياق، أن زيارتي أردوغان لكل من تشاد وتونس، اللتاي جريتا، عقب فراغه من زيارة السودان، مباشرة، لم تواجها من قبل الإعلام السعودي والمصري بمثل ما ووجهت بها زيارته إلى السودان. والسبب، في تقديري، أن نظام الانقاذ بتخبطه الجيواستراتيجي الطويل، الذي يوشك أن يكمل عقده الثالث، وبانتقالاته المفاجئة من محور إلى آخر، قد جعل السودان موضعًا لأطماع الطامعين، الذين أضحوا ينكرون عليه أن ي
تصرف باستقلال عن أجندتهم هم.
بطبيعة الحال، ليس هناك ما يؤخذ على تبادل رؤساء الدول الزيارات، وتوقيع اتفاقيات التعاون التجاري، أو الثقافي، أو العسكري مع من يشاءون. لكن، تصبح نفس هذه الأمور الطبيعية هدفا للسخرية اللاذعة، وللانتقادات الحادة، من قبل المستقطِبين الطامعين، حين تصبح الدولة، بلا قرارٍ مستقل، وبلا كرامة وطنية، وتتحول، من ثم، إلى مقطورة بلا حارس، يقطرها من يشاء، حين يشاء، كما هو حال السودان، في هذه الحقبة الانقاذية. خرجنا من الاستقطاب الإيراني، لنقع بلا مقدمات في الاستقطاب السعودي، ثم لنقع، بعد شهر عسلٍ سوداني/سعودي، بالغ القصر، في الاستقطاب التركي.
لكي نكون منصفين، لا بد من القول إن التخبط الجيواستراتيجي السوداني شأنٌ قديم، يعود إلى فجر الاستقلال، وسببه الأساس هو حالة الاستلاب العروبي الطويلة، التي عاشها السودان. لكن نظام الانقاذ أوصل هذا التخبط إلى مداه الأقصى. لم تفلح النخب السودانية، بل ولم تهتم أصلا، بمناقشة التأثيرات الاستعمارية المتمثلة في المناهج التعليمية المصرية، وفي كتابة التاريخ السوداني من وجهة نظر مصرية، والنهل المستمر من معين الثقافة المصرية، التي ربطت السودان بالفضاء العروبي المشرقي، منذ بداية الحقبة الخديوية، وإلى المرحلة الناصرية برؤسائها الثلاثة. انهار اليسار العروبي والناصرية، وصعد تيار الاسلام السياسي، ليملأ الفراغ. وكان من سوء حظ السودان أن أصبح القطر الأول الذي يصل فيه تيار الإسلام السياسي إلى السلطة، في العالمين العربي والإسلامي. هذا، إذا استثنينا تجربة طالبان القصيرة، في أفغانستان. الشاهد، أننا خرجنا من استقطاب التيار العروبي، الناصري، العابر للأقطار، لندخل في استقطاب المشروع الإسلاموي العابر للأقطار، أيضا.
حاول الانقاذيون، على يد الدكتور الترابي، في بداية عشريتهم الأولى، أن يجعلوا من السودان القاطرة، التي سوف تجر العالمين العربي والاسلامي، إلى رحاب المشروع الإسلاموي السوداني، المعولم. غير أنهم، انتهوا في السنوات الأخيرة، بعد انهيار المشروع، إلى مجرد مقطورة تتكالب عليها الأقطار الطامعة في استقطاب غيرها. فالفشل الإنقاذي المدوي، على جميع الصُّعد الداخلية، وعلى رأسها الفشل الاقتصادي، وحالة الإفلاس المتفاقمة، جعلت من حكومة الانقاذيين، مجرد “طرورة”، تتقاذفها أمواج الجيوستراتيجيا الإقليمية المتلاطمة.
حين وصل الانقاذيون إلى السلطة، ناصبوا دول الخليج العربية العداء، وأطلقوا في وجهها، في سنواتهم الأولى، الرائد يونس، ثم اتجهوا بثقلهم إلى إيران. أيضًا، أنشأ الترابي المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي في عام 1991، ليصبح بديلا ثوريًا إسلاميًا، ينظم الحركات الجهادية، بدلا عن منظمة المؤتمر الإسلامي، التي تهيمن عليها السعودية. ثم، دخل النظام السوداني، المؤدلج، في مواجهات مع كل من إثيوبيا وإرتيريا، بسبب دعمه للحركات الإسلاموية في هذه الأقطار. وقد بلغ التوتر بين السودان وجارتيه الشرقيتين، حد قطع العلاقات. ونتيجة لذلك، استضافت إرتيريا فصائل المعارضة السودانية.
أيضًا، حامت الشبهات حول النظام السوداني، بسبب التفجير الأول الذي جري بمركز التجارة العالمية بنيويورك، في عام 1993. وكان أول تفجير إرهابي ذو صبغة إسلامية يجري في الأراضي الأمريكية، وكان المقدمة لتفجير 11 سبتمبر الشهير. في عام 1995، ضلع النظام في محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك. وفي عام 1998، جرى نسف السفارتين الأمريكيتين في كل من نيروبي ودار السلام، واتُّهم بها كل من بن لادن وأيمن الظواهري. وبما أن النظام استضاف بن لادن في السودان لفترة، فقد أصبح النظام موضع شبهة، نتج منها تدمير مصنع الشفاء بصواريخ كروز في عام 1998. وهي ضربة تضاربت الأقوال حول حقيقة مبرراتها. وفي عام 2000 جرى تفجير البارجة الأمريكية كول في سواحل اليمن. وقد أصدرت محكمة أمريكية عام 2007، بعد تحقيقات مطولة، حكمًا بإدانة حكومة السودان في تلك الحادثة، وجرى تعويض الضحايا مبلغ 15 مليون من أموال السودان المحتجزة داخل أمريكا. أما استخدام السودان، بواسطة إيران، معبرًا لإيصال الأسلحة إلى منظمة حماس، فقد جعل السودان يتعرض لسلسلة من الضربات الجوية الإسرائيلية، كانت أكبرها ضربة مصنع اليرموك، في عام 2012.
دلت سياسات الانقاذ الخارجية، منذ يوم مجيئها، على مرّكب جنون العظمة، والشعور الواهم، بامتلاك الدور المركزي في بنية المشروع الإسلاموي المعولم. ومسلك الانقاذيين في عشريتهم الأولى الذي انطلق من هذا الوهم الكبير، وهو وهم ظل معشعشًا في عقل الدكتور الترابي لعقود، هو الذي جلب على البلاد الضغوط الدولية والإقليمية، وعوق مسارات النمو، وعمق الأزمة الاقتصادية في البلاد، وخلق اختلالات هيكلية في سائر أرجاء البلاد، يصعب علاجها.
قليلا، قليلا، بدأ النظام يعرف مدى قزمية حجمه، وخفة وزنه، بإزاء القوى الإقليمية والدولية. ومن هنا بدأت التحولات التي أزاحت الدكتور الترابي، غير أن، سوء السمعة، وعدم الثقة، لازمتا النظام إلى يومنا هذا. وهكذا، تحول النظام من الاستئساد، والعنتريات، وأحلام تصدير المشروع الإسلاموي السوداني، إلى استجداء القبول والدمج في الفضاءين الإقليمي والدولي. وهنا بدأ تخبط آخر جديد.
تكثف التخبط الجيواستراتيجي، في الفترة الأخيرة، بشدة، وبلغ ذروة لم يبلغها من قبل. ألقى النظام، قبل فترة قصيرة، بثقله على المملكة العربية السعودية لتلعب دور الوسيط في جهود رفع الحظر الأمريكي. وردًا للجميل للسعودية، أقحمت الحكومة السودانية نفسها في حرب اليمن. وقبل أن تتضح نهايات مسار إجراءات رفع الحظر الأمريكي، ألقى الرئيس السوداني نفسه، بصورة مفاجئة، في الحضن الروسي طالبًا الحماية مما أسماه العدوان الأمريكي. وفي نفس الوقت، تبلور حلف سوداني تركي، لا تزال تفاصيله غير واضحة. ويبدو واضحًا، مما ظهر في الإعلام، في الأيام القليلة الماضية، أن هذا الحلف الجديد، قد أثار حنقًا مصريًا، سعوديًا، إماراتيًا. وأتوقع أن تحدث، نتيجة لهذا الحنق، أفعالٌ مضادة، من نوع ما، ربما تكشف عنها الأيام المقبلة.
قصدت من سرد كل ذلك التذبذب الطويل، أن أشير إلى انعدام الرؤية الجيواستراتيجية المتماسكة التي وسمت العلاقات السودانية بدول الإقليم، وبالقوى الدولية، عبر عقود فترة ما بعد الاستقلال. وبسبب الإيديولوجية الإسلامية مبهمة المعالم، فقد أوصل الاسلاميون هذا المسار إلى نهاياته، فأصبح التذبذب، يجري فيه بوتيرة بالغة السرعة، كما شهدنا مؤخرا. وهي وتيرة تنذر بعواقب سيئة. ورغم أن اليسار العروبي قضى نحبه، فقد تحولنا إلى مشروع الإسلاميين العابر للأقطار، وهو مشروع مرتبط، عضويًا، بالفضاء العربي. إن علة الجيواستراتيجيا السودانية يكمن في ارتباطها بالأجندة الجيواستراتيجية العربية المهتزة أصلا، بسبب التشاكسات العربية/العربية التي لا تنتهي.
ظلت أقطار الجوار مثل، كينيا، وتنزانيا، وإثيوبيا، وغيرها من الدول الإفريقية، تنهج نهجًا متزنا، لا يشوبه هذا النوع من التذبذب والتأرجح، والارتهان المفرط، للأجندة الإقليمية، أو الدولية. لقد غلبت في هذه الأقطار الأجندة الداخلية؛ أي أجندة بناء الدولة الوطنية. ولم تتأثر هذه الدول بهوس محاولة التأثير على الأجندة الخارجية، وجعلها مدخلا، ومعبرا، لإنجاز المهام الوطنية. ليس لهذه الدول أيديولوجيات تود تصديرها عبر الحدود. عرفت هذه الدول قدرتها بإزاء الغرب، فبقيت تدور في فلكه، وتعمل على فك أسرها منه بحكمة، وتؤدة.
نحن نعيش الآن نهايات حقبة الفشل. وكان على رأس تمثلات الفشل في واقعنا، هذا الفشل الجيواستراتيجي الذي جلب علينا كل بلوى. ما نحتاجه اليوم، هو الخروج من هذا النفق المظلم، بجعل الاستراتيجيا شأنًا علميًا أكاديميًا تسترشد فيه السلطة الحاكمة، أيًا كانت، بأبحاث مراكز التفكير المستقلة، التي ينحصر همها خدمة الأجندة الوطنية، بعيدًا عن لوثة الإيديولوجيات القزمة، التي تريد أن تغير محيطها الإقليمي والدولي، وهي ليست بقادرة على تغيير أحوال محلية، أو مجلس ريفي.
لقد آن الأوان أيها الإسلامويون، من بقي منكم في السلطة، ومن أخذ يعارضها لواذًا، ومن بقي منكم متفرجا جالسًا على الرصيف، لأن تعترفوا بنهاية مشروعكم الهلامي، فتودعونه ظلمة القبر، وتقرأوا على روحه الفاتحة. المهمة الجديدة، هي فتح أفق جيواستراتيجي جديد، يخدم أجندة بناء الدولة السودانية. أفق استراتيجي يضع الكرامة الوطنية، والمصلحة الوطنية، نصب عينه. أي؛ أفق استراتيجي جديد، ليس فيه عداء ولا انحياز؛ لا للغرب، ولا لروسيا، ولا لإيران، ولا لتركيا، ولا لأي محور عربي. فحين تحترم الدولة نفسها، وتتمسك بعزتها، وكرامتها الوطنية، يحترمها الجميع، وتسلم من المناوشات الخشنة. فإصلاح الداخل، يبدأ من الداخل، وينتهي فيه. أما الارتماء في أحضان المحاور الخارجية، فهو مما تقوم به السلطة الديكتاتورية، لكي تحمي نفسها من شعبها، وهذا واحدٌ من حبال الكذب القصيرة.