الاتفاقيات والمواثيق فى السودان : ازمة العقلية واليات التطبيق

الاتفاقيات والمواثيق فى السودان : ازمة العقلية واليات التطبيق
بقلم: عثمان نواي
اعلنت دولتا السودان اتفاقهما على ان لقاء رئيسى البلدين فى اديس ابابا فى ال23 من سبتمبر الجارى , على امل ان يتمكن الرئيسين من اتخاذ القرارات النهائية والتى وصفها وزراء خارجية امريكا والنرويج وبريطانيا فى بيان مشترك لهم فى 21 سبتمبر الجارى بانها يجب ان تكون ” شجاعة وذات رؤية وتحمل السلام والامن لشعبى السودان ” , وفى ذات الاطار طالب الوزراء بان تقوم حكومة السودان والحركة الشعبية قطاع الشمال بالتفاوض بصورة مباشرة وتنفيذ الاتفاق الثنائي لادخال المساعدات للمنطقتين فى جبال النوبة والنيل الازرق والاسراع بوقف العدائيات لتهيئة الاجواء للتفاوض والدخول الامن والمساعدات , وفى الايام الماضية ايضا كانت تسربت وثيقة المقترح المقدم من الوساطة الافريقية التى طرحت على كل من الحكومة والحركة الشعبية , وتتسارع الخطى فى اديس ابابا هذه الايام من اجل الضغط على كافة الاطراف سواء الحكومتين فى الشمال والجنوب او الحركة الشعبية قطاع الشمال وتحت ضغوط دولية كبيرة من اجل الوصول الى حل شامل للقتال فى المنطقتين وانهاء التفاوض حول القضايا العالقة مع الجنوب , وذلك استباقا لاجتماع الجمعية العمومية للامم المتحدة فى 24 من سبتمبر , واجتماع مجلس الامن ومجلس الامن والسلم الافريقى فى 27 من الشهر , حيث يتوجب ان تقدم الالية الرفيعة بقيادة امبيكى تقريرها حول المفاوضات , وما تطمح اليه الالية والمجتمع الدولى ان يتم التوصل الى اتفاقات نهائية حتى موعد اجتماع مجلس الامن و تعتبر قمة البشير سلفاكير هى القمة التى ستحل القضايا الخلافية والتوقيع الاتفاقيات التى تم التفاوض عليها فى الجانب الاقتصادى والامنى .
ان الاتفاقيات والمقترحات التفاوضية المطروحة الان بين دولتى جنوب السودان لحل الخلافات بينهما , هى شديدة الارتباط فى تنفيذها بالوضع فى جبال النوبة والنيل الازرق , سواء من حيث تامين الحدود , او تامين مواقع البترول ومروره او حول السيطرة على الازمة الانسانية التى تلقى بظلالها على دولة الجنوب بسبب الحرب فى المنطقتين , هذا اضافة الى مطالب الحكومة ” بفك ارتباط الحركة الشعبية بدولة الجنوب ” , ولتعقيدات هذا الموقف قام قرار مجلس الامن رقم 2046 بجمع قضايا المنطقتين وحل الازمة مع جنوب السودان فى قرار واحد ولضمان تحقيق استقرار حقيقى بين دولتى السودان وداخل دولتى السودان . وفيما تتجه المفاوضات بين الدولتين الى تقدم مستمر, رغم بعض التوتر , الا ان المفاوضات بين الحركة الشعبية والحكومة لازالت غير مباشرة , وتواجه صعوبات عدة متعلقة بالاتفاق على ارضيات التفاوض , وتمسك كل طرف بموقفه وخاصة الحكومة السودانية التى لا زالت تمنع وصول المساعدات الى جبال النوبة والنيل الازرق تعرقل دخول المنظمات الدولية الى المنطقتين , واستمرارها فى القصف الجوى على المدنيين .
ويبدى المراقبين قدر من التفاؤل حول المفاوضات الحالية فى اديس نسبة للاهتمام والضغط الدولى الكبير والمراقبة اللصيقة لمجرياتها من قبل مجلس الامن , ولكن تساؤلات كثيرة تطرح نفسها حول قدرة اى اتفاقيات بين الفرقاء السياسيين السودانيين على ايجاد حلول للازمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية فى السودان , والى اى مدى تتمكن المفاوضات الجارية والقائمين عليها , من ردم هو انعدام الثقة بين المتفاوضين خاصة الثقة فى نظام الخرطوم القائم , والذى وقع اكبر عدد من اتفاقيات السلام , خرقها او لم ينفذها , وحتى اتفاق نيفاشا , فانه سوى التزامه بتنفيذ تقرير المصير , فان النظام فى الخرطوم لم يلتزم قط ببنود الاتفاقية الاخرى المتعلقة بالمنطقتين , او حماية الحريات او حتى الدعوة الى الوحدة الجاذبة التى كانت جزءا من الاتفاقية, اذن فان الالتزام بالاتفاقيات التى ستوقع او التى وقعت مع نظام الخرطوم واخرها الاتفاق الاطارى فى ديس ابابا تطرح تساؤلات حول تحقيق اليات صارمة برعاية المجتمع الدولى والدول الراعية للتفاوض الان لضمان التزام الاطراف بالاتفاقيات وتنفيذها على ارض الواقع لخروج بالبلاد من ازمتها الراهنة .
ولا تنحصر الازمة حول التفاوض والاتفاقيات السودانية حول مدى الالتزام بالتنفيذ فقط , بل هناك ازمة اخرى اشد خطورة , وهى ازمة انعدام الاليات التنفيذية الفاعلة لتنزيل الاتفاقيات على الارض , حيث ان الاطر العامة للاتفاقيات والبنود التى يتم الاتفاق عليها هى نصوص مكتوبة على الورق , ولابد من وجود اليات ومؤسسات فاعلة تقوم بتحويل الكلمات الى افعال , ورغم ارتباط التنفيذ بالارادة السياسية والالتزام بالمواثيق , الا ان الاتفاقيات المتعلقة بالقضايا السودانية كثيرا ما تتعرض للعموميات والاطر وتتجاهل التفاصيل الامر الذى يؤدى الا ان تظهر كل الشياطين والقوى الشريرة عند الحديث عن تلك التفاصيل التى تترك للاطراف وحدهم لاتفاق عليها وفى نهاية الامر تكون تلك التفاصيل والتى عمليا هى اليات التنفيذ للاطر الكبيرة المتفق عليها , كثيرا ما تتحول الى ازمات قائمة بذاتها تتولد مثل رؤوس الشياطين , وهذا ما حدث بالضبط فى ما يسمى الان بالقضايا العالقة بين الشمال والجنوب , وكذلك تتجلى ازمة الاليات فى تنفيذ الاتفاقيات فى مسالة المشورة الشعبية للمنطقتين , والتى احتار مختروعها فى تنفيذها على ارض الواقع بصورة عملية وعلمية , فى حين ان المشورة الشعبية من الخطورة بمكان فى تحديد مصير شعبين كاملين فى جبال النوبة والنيل الازرق .
ان اى نجاح يرجى للاتفاقيات التى تنجم عن التفاوض الحالى , وخاصة فى ما يخص التفاوض بين الحركة الشعبية والحكومة حول المنطقتين وقضايا السودان الاخرى , يجب ان لا يتعامل مع الاتفاقيات كحلول , انها مجرد مسودات مكتوبة على الورق , وان التعامل معها كحلول , يجعل المتفاوضين عليها , يقعون تحت ازمة الخضوع الى زيف اللغة وقدرتها على الايهام بان الواقع يمكن ان يكتب فى كلمات , كما ان عملية التفريغ اللغوى والنص على المطالب لا يحقق المطالب كما ان النصوص القانونية لا تحقق العدالة لمجرد وجودها , وبالتالى فان التحدى فى راى هو الادراك لمدى عمق الازمة السودانية الحالية , من كافة جوانبها الاجتماعية المتعلقة بالعنصرية والتطرف الدينى والقبلى , الى المشاكل الاقتصادية الخانقة , والازمة الامنية المستفحلة والصراعات المسلحة , وبالتالى فان التفكير فى اتفاقيات لا تحمل فى داخلها اليات مبتكرة لحل الازمات المذكورة لن تضيف سوى كومة ورق جديدة لتعهدات لم تنفذ وافكار لم تحول لواقع ابدا .
ان حالة الكسل الابداعى والفكرى لدى العقل السودانى والمرتبط بالعقلية التحايلية المستهلكة الانتهازية , التى يتصف بها بقدر كبير العقل العربى , ادت الى ايقاع البلاد الى الهاوية السياسة والاجتماعية السحيقة التى تقبع فيها البلاد الان , ناهيك عن ان الازمة تولد الازمة فان طبيعة السيطرة المركزية لهذه العقلية على البلاد لعقود , جعلت المجتمعات السودانية الاخرى الغير عربية فى حالة استلاب لها , واعادة انتاج مبنى على السيطرة المركزية للعقلية الحاكمة للبلاد , وبالتالى فان التحدى الاكبر الان هو الخروج من ازمة الدوائر المغلقة للحروب فشل الاتفاقيات فالحروب مرة اخرى , وحيث اعتقد الانقاذيون وسواهم ان الجنوب سينهى الحرب فانهم تهربوا من حقيقة ان سبب الحرب لم يكن سببها ابدا الجغرافيا ولا المكان ولكن كانت العقليات المغلقة الغير قابلة لاستيعاب الاخر سوى داخل قوالبها الضيقة , دون الادراك لان هناك اخرين غير الجنوبيين , وما كان انفصال الجنوب الا رفع للغطاء عنهم وعن مطالبهم التى غطى عليها الجنوب بكبر حجمه وطول خبرته فى الصراع مع المركز , فما بدات المفاوضات حول الجنوب حتى خرجت دارفور تصرخ , وما كاد ينفصل الجنوب وتبدا دارفور حتى خرجت جبال الانقسنا و جبال النوبة مزلزلة البلاد بالامها , اذا التحدى كما ذكرنا هو تحدى مع هذه العقلية التى لا تكسر قيودها الذاتية لتقبل الاخر , ولا تتحدى ذاتها للخروج بحلول مغايرة وجذرية ومختلفة و مؤسسات ونظم جديدة تحدث خرقا فعليا على الارض ينقذ البلاد من حالة الحديث عن الازمات والتفاوض حول الازمة الى الدخول الى عمق الازمة ومواجهتها بمعالجات نهائية وشافية , ربما تكون مؤلمة او استئصالية , لكنها على الاقل واقعية و وقوف عن كتابة وصفات علاجية دون استعمال العلاج , فقط لاننا نصر على ان نفعل كما السيدة العجوز التى وصفت لها دواء لتشربه , ملعقة يوميا , ولكنها بعد اسبوع عادت وهى اشد مرضا سالها الطبيب هلى اشتريتى الدواء قالت نعم , هل شربتيه , قالت لا , قال لها لماذا , ” الملعقة ابت تخش فى الفتيل ” , فها نحن رغم الاتفاقيات والبحوث والدراسات والمقالات والتحليلات والمواثيق , الا اننا لا نملك القدرة على الابداع فى التفكير لمعرفة تطبيق عملى للوصفات العلاجية التى لدينا , فتزداد ازماتنا يوما بعد يوم , فلا بد لنا من وقفة نتوقف فيها عن المكابرة ونعترف بعجزنا المزمن عن صناعة اليات لمعالجة ازماتنا .
[email protected]
http://osmannawaypost.net/
https://twitter.com/

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *