منذ اندلاع ثورة الشعب السوداني في سبيل حريته وكرامته, وبناء نظام ديمقراطي تعددي قبل نحو عشرة أعوام والسؤال الذي يتقدم الأسئلة: كيف يتصرف الاسلاميون في السودان؟ ما هو موقفهم مما يجري؟ هل سوف يدعمون النظام حتي النهاية؟ .. أسئلة كثيرة مشابهة.
من حيث المبدأ فان تخصيص السؤال بجماعة بعينها يجعله سؤالا خاطئا وبالتالي ليس له جواب صحيح. خطأ السؤال يأتي, أولاً, من كون النظام ليس نظام الإخوان المسلمين, رغم ان “الاخوان” يشكلون خلفيته السياسية .. إضافة الي انه لا يصح البحث في النظام السياسي السوداني بلغة ومفاهيم إسلامية, إذا كان فعلا هو نظام إخواني وحاضنته سياسية اسلامية, لماذا المفاصلة؟! عندئذ لن نحصل علي معرفة صحيحة به. النظام السوداني هو نظام مصالح , وفي حقل المصالح ينبغي دراسته وتحليله للوقوف علي عناصر القوة والضعف فيه . إنه نظام طغمة مالية أمنية شديدة المحافظة, استطاع خلال أكثر من عقدين ونصف أن ينسج علاقات قائمة علي المصالح مع فئات اجتماعية انتهازية مختلفة بعضها حقيقي وبعضها فيه كثير من الوهم, لكنه الوهم الذي تحول الي نوع من القناعة لدي كثيرين, ومثال عليه الوهم القائل بان النظام السوداني هو نظام اسلامي, ان الاسلاميين يشكلون خلفيته السياسية, وبالتالي سوف يدعمونه حتي النهاية.
لم يعرف عن حزب المؤتمر الوطني أنهم اسلامويون, غير أن الرئيس السوداني عمر البشير هو أول من أنعش هذا الوهم لديهم من خلال تسلمه للسلطة في عام 1989 بانقلاب عسكري, معتمدا بذلك علي مجموعة من الضباط والسياسيين الاسلامويون. لقد أوهم كثيرا من الاسلاميين بأنه أتاح لهم أن يتسلموا السلطة وان يستفيدوا من مزاياها والفرص التي تتيحها, وان يتحولوا الي قوة حقيقية في المجتمع والدولة, وإذا ذهب ذهبوا معه. ومنذ ذلك التاريخ عمل بصورة ممنهجة علي تكثيف حضور الاسلامويون في المؤسسات العسكرية والأمنية والسياسية, وفتح شهية جميع الضباط والقادة السياسيين علي الإثراء غير المشروع. لقد أوهم الاسلامويين بأنه يعبر عن مصالحهم, والحقيقة هي أنه جعل منهم أدوات لتثبيت حكمه فقط, والدليل ان الكثير من الاسلاميين الان فى السودان فقراء .
بطبيعة الحال ما كان باستطاعة عمر البشير فيما بعد أن يستمر في الحكم مستندا الي أوهام نسجها من حوله , حتي لو اَمن بها كثيرون, لو لا أنه بالتوازي معها أوجدوا لحكمه ركائز حقيقية قوية. من أولي هذه الركائز وأهمها هي الركيزة الأمنية, أعني قمع كل رأي مخالف وزجه في السجن, وفصله من العمل(الصالح العام). لقد كان ومازال عمر البشير يعيش ارهاب المعارضة لحكمه لذلك لم يكن يتساهل مع أي رأي معارض أو مخالف حتي ولو جاء من أخيه أو من أوصلوه للحكم, كما حصل فعلا مع عراب الإنقاذ دكتور حسن عبدالله الترابي 1999, واعدام الضباط أكثر من مرتين. لقد استمرت هذه الركيزة, بل وتم تعزيزها وحمايتها من المساءلة عن أفعالها قانونيا. لقد كان نصيب الاسلامويون من قمع عمر البشير لن يقل عن الاَخرين, إذ يندر وجود بيت في السودان لم يتعرض أحد أبناءه للقتل او التعذيب او السجن فى احسن الاحوال . واليوم تلمع أسماء كثيرة في معارضة النظام ينحدرون من الاخوان المسلمين, مثل الترابي وغازي العتباني, وغيرهما كثر.
والركيزة الثانية هي بناء علاقات قوية قائمة علي المصالح مع طبقة التجار والصناعيين ورجال الدين, من خلال إشتراكهم في لعبة الإثراء غير المشروع ونهب مقدرات البلد. لقد تكونت في نظام المؤتمر الوطني طبقة واسعة النفوذ من التجار والصناعيين استطاعت أن تراكم ثروات خيالية قامت بتهريب قسم كبير منها الي خارج البلاد. تقدر بعض المصادر غير الرسمية أن حجم الأموال التي تم تهريبها خلال ربع القرن تزيد عن نصف ميزانية الدولة خلال هذه الفترة, كان لرجالات حاشية الحكم من أهله أو المقربين منه الحصة الكبري منها. إضافة الي ذلك فقد خلق تسيب الحكم وفساده شبكة معقدة من المصالح قائمة علي الفساد ونهب المال العام والتهريب, وهي اليوم تعد من أكثر الشبكات دعماً ودفاعاً عن النظام بثبات وقوة.
والركيزة الثالثة هي تفريغ المجتمع من أي حياة سياسية أو مدنية طبيعية وتحويل جميع الأحزاب التي سمح لها بالعمل وفي مقدمتها أحزاب متحالفة معها في السلطة( أحزاب الفكة) وكذلك منظمات المجتمع المدني الي مجرد أجهزة للسلطة تؤدي أدواراً أمنية بصورة مستمرة.
لقد تم امتحان جميع هذه الركائز سواء ما كان منها وهماً أو مؤدلجاً أو حقيقةً خلال الأزمة الراهنة التي تسببت فيها النظام ذاته, وللأسف تبين نجاحها حتي الآن. لقد صمدت مؤسسات النظام ولم يحصل فيها انشقاقات ذات مغزي, عدا قلة القليلة في المؤسسة الحزبية. لا تزال المؤسسة الدبلوماسية والعسكرية للنظام متماسكة ولم يحصل فيها أي انشقاق حتي الآن, والسبب في ذلك لا يقتصر علي طبيعة المصالح التي حققها النظام لأفرادها, بل للتهديد الواضح لكل موظف في الدولة.
ونجح أيضا في المحافظة علي دعم طبقة التجار وعصابته ومليشياته له, وقد تمثل ذلك في الاستفادة من نفوذها لمنع خروج سكان المدن الرئيسية في المظاهرات الاحتجاجية ضد النظام بصورة جماهيرية.
ونجح أيضا في الإبقاء علي دعم فئة رجال الدين الي جانبه. والأخطر من كل ذلك أنه نجح الي حد بعيد في استثمار خوف الاسلامويون في دعمها له. وفي هذا المجال علي نطاق واسع ما حصل في دارفور وكردفان والنيل الازرق من قتال وتدمير وتهجير للسكان, إضافة الي التصريحات والدعوات الطائفية والجهوية غير المسؤولة التي صدرت عن بعض الأفراد المشاركين في الأحزاب السياسية أو المحسوبين عليه لتخويف الناس من التغيير المقبل. غير أن صمود الشعب السوداني أمام اَلة القمع المنفلتة من أي ضوابط أخلاقية او انسانية او سياسية او قانونية, التي زجها النظام في مواجهته, أذهل قوي النظام وجعله في حيرة من أمره, فكلما يزيد في القمع ازداد الشعب صلابة في مقاومته. إنها بداية سقوط النظام الاستبدادي وانبلاج فجر الحرية والديمقراطية .. إنه المستقبل الذي يستحقه الشعب السوداني بجدارة. لم يعد يشك أحد اليوم في حتمية سقوط النظام, لكن يبقي التساؤل: متي؟! وبأي ثمن؟!
احمد قارديا خميس