خلقت خريطة الطريق فريقين في المعارضة فوقا عما هي عليه من تباعد المسافات، والأجندة، والتكتيكات. هذا في حد ذاته إضعاف زائد للمعارضة التي تراهن جميعها على خيار الحوار بالشروط المسبقة التي كنا قد حفظناها عن ظهر قلب. وكما نعلم أن التحولات الإقليمية، والدولية، صعبت خيار الكفاح المسلح. أما بالنسبة لخيار إسقاط النظام فدوننا ثقل المهمة، وحاجتها لآليات ضرورية لم تتوفر إلى الآن.
ولكن فشل جولة المفاوضات المتوقع في العاصمة الإثيوبية، والذي أشرنا إليه في المقال السابق أعاد الكرة الي ملعب المعارضة بشئ من الإيجابية بعد أن جدد، ووثق، المفاوضون، والموقعون، والمعارضون كافة، معرفتهم بعدم جدية الحكومة. والأمر هذا كان واضحا عبر تشكيلة وفد النظام التي ضمت قياديين من الصف الثاني فيما مثلت الحركات بقيادات الصف الأول. بجانب ذلك لم تقابل الحكومة حضور زعيم حزب الأمة بحضور رئاسي يرسل على الأقل إشارات معنوية لتطلعاته السلمية حد التشكيك. وهذا يعني في حد ذاته استهتارا بالعملية السلمية، وإهانة عميقة للقوى التي وقعت، وهذا نهج معروف درج عليه النظام لتبخيس القوى المعارضة.
بهذه الخطوة الحوارية التي أثارت الجدل حول المعارضة تجاوز المفاوضون المعارضون التعنيف المعنوي الذي كان سينتظرهم في حال
عدم الاستجابة لدول الترويكا. وهي، كما يعلم الكثيرون، هدفها أن تكافئ النظام لخدماته، من جهة، ومن الجهة الأخرى أن يكسب أوباما الذي ينوي مغادرة البيت الأبيض وفي جعبته تحقيق سلام زائف في السودان. ذلك حتى يقوي تراثه الدبلوماسي المناقض لتراث الجمهوريين الحربي.
إن المسافة ما بين هذه اللحظة وبين الجولة القادمة تتطلب مراجعة الجهات المفاوضة الانتقادات الحادة لهم، والتي تتعلق بشأن عدم إدراج بعض مطالَب قواعد المعارضة الأساسية كشرط لتوقيع خريطة الطريق. وقد برزت هذه الانتقادات من قواعد المفاوضين قبل أن تبرز من مخالفي نهجهم، ومشاريعهم السياسية. كما أن القوى الرافضة للاتفاقية بحاجة الي إعادة التجسير بين تحالف الإجماع الوطني وبين الحركات المفاوضة، وبقية التيارات السياسية المهتمة بإسقاط النظام. وهذا التجسير الإستراتيجي هو صمام الأمان للطرفين، ولكل معارض حادب على الوطن. بل هو البعبع الذي يخيف النظام من جانب، وكونه يسهم في وصول المعارضين جميعهم إلى واقع تغيير يحافظ على تصفية النظام، وصون وحدة البلاد، وضمان تحقيق مطالب أطراف الأزمة السودانية، من الجانب الآخر.
إن أي محاولة لإضعاف العلاقة بين قوى التغيير الناشطة تمثل انتصارا للقوى التي تريد إبقاء البلاد على ما هي عليه الآن، إذ يعمق النظام ساعتئذ فرص ترقيع نفسه، ويجد في استيعاب أشتات من المعارضة الفاعلة في فضائه السلطوي الفاسد. ومهما تباعدت الاتجاهات الأيديولوجية للمعارضة، واختلفت تكتيكاتها، وتحالفاتها المحلية، والإقليمية، والدولية، فإنها تملك المرونة في تقديم تنازلات هنا وهناك لصالح وحدة البلاد، ومستقبلها، خلافا لواقع الأحلام العقائدية للإسلامويين، والتي تتم على حساب الوطن، أو المواطن.
فسيفساء المعارضة، بإخفاقاتها وعوامل قوتها التاريخية، تظل مجالا للتغيير الديموقراطي الذي يحقق الحرية، والمساواة، وإعادة بناء السودان، وإقامة فسطاط العدل، وخلق بيئة للتنافس السياسي المتسامح الذي يمنح السودانيين الأمل في معالجة القضايا الوطنية، وتسويتها، ووضع البلاد في طريق الاستقرار، والتقدم، والتنمية. ولعل قوي المعارضة كافة قد وعت أهمية تقديم هذه التنازلات التي تتطلبها المرحلة. بل إن لا قيمة لعزل طرف معارض دون آخر في السبيل إلى تغيير الأوضاع المزرية في البلاد. كما أن تمتين الثقة وسط قوى المعارضة ضرورة لتضييق فرص النظام في توظيف التناقضات الأيديولوجية، والمناطقية، والإثنية، لضرب المعارضتين المسلحة والسلمية. والحقيقة أن استمرار النظام وإضعاف المعارضة انبنى في الفترات السابقة على استثمار هذه المعطيات. ولذلك ليس من الحكمة في شئ أن تعمل أطراف داخل المعارضة بتغذية الخلافات السياسية المتولدة من هذه المعطيات وسط المعارضين.
إن على الأطراف الموقعة على خريطة الطريق أن تدرك أن أي حوار يفضي الي المشاركة في السلطة مهما كانت التبريرات هو الانهزام عينه، والتدعيم أتمه لترسانة النظام العسكرية، والأمنية، والإعلامية، والتنفيذية، وأنه مهما كانت رجاحة التوصيات التي يتم التوصل إليها في ظل بقاء هذه الترسانة فإنها ستظل حبرا على ورق. فالوصول الي اتفاق حواري مع النظام والإبقاء على جوهره مع إضفاء بعض المساحيق على جسده، مثل إتاحة المجال لنشاط القوى السياسية، والصحافة، كما حدث بعد اتفاق نيفاشا، لن يغير في الوضع المأزوم شيئا. ذلك ما دام جهاز الأمن، والجهاز التنفيذي، والقوات المسلحة المؤدلجة، والمليشيات، وقضاء النظام، وإعلامه، واقتصاده، باقين لدعم السلطويين عند النكوص عن بنود الاتفاق.
ما تزال قناعتنا راسخة أن لا شئ يعيد للسودان عافيته إلا إسقاط النظام عبر الثورات، والانتفاضات الشعبية المجربة. تختلف التصورات، والترتيبات، وقد تطول المدة، لهذا الإجراء. ولكن ذلك هو الحل الوحيد لتحقيق تغيير هيكلي في بنية السلطة، وخلق بديل لها يسمح بالتداول السلمي للسلطة. وسيظل بعض السياسيين يلهثون وراء سراب التسوية الوطنية التي تكفل لهم التوزير، وتحقيق النفوذ المناطقي، أو الطائفي، أو الانتهازي، ولكن سيظل المدخل النظري السليم لاستقرار البلاد، وتسوية أزماتها، في تلاشي بنية هذه السلطة الجاثمة. وفي مزاد السياسة يمكن أن يكثر التخويف بما قد تؤول إليه البلاد من صوملة، وأفغنة، في حال إسقاط النظام، بيد أن إرادة السودانيين ستكون أقوى في الحفاظ على وحدة البلاد، ومقاومة أي جهة تعمل على إفساد التغيير الديموقراطي المأمول. والحقيقة أن الجهة الوحيدة التي لديها الأمل في تحقيق التشظي الكامل للبلاد هي السلطة الإسلاموية. وما يزال عقدها غير المكتوب مع المواطنين الجاثمة على صدرهم هو: إما إستبدادنا، وفسادنا، وتفويجكم بالملايين إلى الخارج، أو تفجير أمن كامل البلاد. ولعل هذا الإصرار على إدارة حيوات السودانيين بالاستبداد قد لمسنا نتائجه في إضعاف مكوناتهم الحزبية، والسياسية، والأيديولوجية، والاجتماعية، والثقافية، والأهم من كل ذلك فصل الجنوب، وخلق الحروب في مناطق النزاع، وتحطيم نسيجها الاجتماعي.
إن الذين يريدون توصيات حوار إنشائية مع الإبقاء على جوهر سلطة المؤتمر الوطني المستبدة لهم أغراضهم الانتهازية على حساب القضية السودانية. وحق علينا تجاهلهم. أما الحوار الذي يحقق تفكيك النظام لصالح دولة المواطنة كاملة الدسم فليس هناك من عاقل يرفضه. ومن أراد أن يستخف بعقولنا، ويهرول نحو مزاد الشراء والبيع، والذي برعت فيه السلطة، فليذهب، ويعفينا من هذي التبريرات الممجوجة، والضحك على الذقون.