رغم تحركاته الماكوكية الأخيرة للتطبيع مع دول المحيطين الإقليمي والدولي إلا أن النظام تلقى، في أقل من أسبوعين، ضربتين خارجيتين أظهرتا عزلته، وتخبطه في فهم طبيعة الصراعات في المنطقة، والتعامل معها بحنكة، واقتدار دبلوماسي. كانت الأولى في قطر، إذ نشرت صحيفة التغيير الإليكترونية التي ترأس تحريرها الزميلة رشا عوض أن “دبلوماسيين غربيين بقطر انسحبوا من حضور الجلسة الافتتاحية لمنتدى الدوحة احتجاجا على مشاركة الرئيس السوداني عمر البشير المطلوب دوليا بارتكاب جرائم إبادة في إقليم دارفور. وتسبب حضور البشير وظهور اسمه على قائمة المتحدثين بالمنتدي- الذي يركز على القضايا الإنسانية- في انسحاب سفراء الولايات المتحدة و كندا وأستراليا..”. ونرجو ألا ن
نسى أن الذي استقبل البشير في مطار الدوحة كان وزير البلدية والبيئة محمد بن عبدالله الرميحي، والذي لا ينتمي للأسرة الحاكمة. أما الضربة الأخرى والتي ما يزال صداها يعم العالم، وليس المنطقة فحسب، هي طرد رئيس النظام من قمة الرياض.
والمؤكد أنه هكذا ظلت البلاد تعيش قرابة ثلاثة عقود في حالة من غياب الفاعلية في الدور الدبلوماسي المعني بدعم حركة المؤسسات الداخلية. فعلى مستوى الخارجية انعدمت المعايير الضابطة المتعارف عليها في اختيار الرجل المناسب في الوزارة المهمة التي تعد مفتاحية في دعم البلاد، ووحدتها، واقتصادها، واستقرارها، واستثمارها. وكيف لا تغيب المعيارية في اختيار رئيس السلك الدبلوماسي، وطاقمه المؤهل، في وقت علت التوجهات الأيديولوجية لحكومات النظام على حساب المهنية، وجثم على صدر البلاد رئيس يجهل خطورة التصريحات الرعناء التي لا تراعي مصالح شعبه. بل إن الكفاءات المدربة، والمختبرة، في الوزارة قد شردها الإسلاميون تماما لكونها لا تؤمن بخيانة متطلبات الوظيفة ذات الأهمية القصوى.
وعليه كان حتميا أن يواجه رئيس البلاد، وطاقمه الدبلوماسي، الإهانة مرة إثر أخرى بعد أن أراد كاذبا وضع المجتمع الدولي تحت جزمته مثلما صرح يوما. فاعتذار البشير عن حضور قمة السعودية يعود الى حصد السذاجة الدبلوماسية، أما المبرر الذي أوردته وكالة أنباء سونا الحكومية فهو مجرد هروب من تبيان السبب الجوهري الذي منع تمثيل رئيس النظام في المؤتمر الإسلامي المنعقد على هامش زيارة الرئيس الأمريكي للرياض. وأكبر دليل على كذب البشير أن وزن مبعوثه للقمة الإسلامية لا يرقى إلى مستوى التصريحات التي أكد فيها أهمية انفتاح النظام على المشهد العالمي، وذلك بحضوره ضمن حشد الرياض. كما أن تصريحات وزير خارجية النظام غندور كانت تعلي من شأن مشاركة النظام حتى كاد يقول لنا إن التبسم في وجه ترمب وارد بكثافة حين يلتقي الرئيسان.
وإذا كان النظام ينظر لمشاركته في القمة بهذا الانشراح فما الذي جعله فجأة يعلن اعتذار رئيسه عن السفر إلى الرياض وإرسال مدير مكتبه، وليس نائبه الأول، أو الثاني، أو وزير خارجيته، ليحل محله حتى يستفيد من هذا التجمع النادر الحدوث، سواء عبر مباحثات ثنائية، أو اتفاقات، أو تفاهمات، على هامش أعمال الملتقى. والسؤال الكبير هو ما هي مؤهلات طه عثمان التي قادته ليكون الرجل المناسب لتمثيل النظام؟
إن الوضع المحرج الذي واجهه رئيس النظام بعد طرده من القمة الإسلامية يعبر حقيقة عن انهيار تام لدبلوماسيته التي ظلت تعتمد على أساليب المكر البراغماتي للتعامل مع الواقعين الإقليمي والدولي، والسمسرة هنا وهناك، لتحقيق مكتسبات وقتية تعمق كلفة البقاء في السلطة، وتؤذي وحدة السودانيين على المدى البعيد، وتشوه سمعة البلد أفريقيا، وعربيا، ودوليا. فالواقع أنه ليس هناك أي دور إيجابي للدبلوماسية السودانية الراهنة بخلاف اللعب على التناقضات السياسية في هذه المشاهد العالمية بلا ارتكاز على مبادئ، وأهداف، تخدم مصلحة الشعب السوداني. ولعل هذا الدور الدبلوماسي المفترض كان ينبغي أن يبني في تراث الدبلوماسية السودانية الذي حقق الكثير من مصالح البلاد سواء عبر الأنظمة السابقة. ولكن لأن النظام كان يهدف الى تحقيق مكاسب إقليمية، وجوارية، تتناغم مع متن أيديولوجيته الأممية جعل دبلوماسيته تابعة لحفنة من المشرعين، والنافذين فيه. وهؤلاء الذين يخلون من سابق تجربة في العمل الدبلوماسي استهدفوا خبرات الخارجية الموروثة، ووظفوا محلها كادرا مؤدلجا يتعامى عن مصلحة السودان وفقا لحقائق الواقع الإقليمي والدولي الماثلة حتى ينفذ إرادة هؤلاء القادة الذين توسعت طموحاتهم الخارجية بعد أن تمكنوا من صياغة الواقع الداخلي.
والمعروف أن وزراء الخارجية السابقين، ووكلاء الوزارة، والسفراء، وبقية الدبلوماسيين، ظلوا على خبرة كبيرة، ودراية بالمهنة، وكانوا حقا ممثلين للدولة قبل مثول الإنقاذ. ولكن في زمان التمكين تحولت الدبلوماسية السودانية التي كانت معتدلة إلى ممارسة نوع من الارتباط بالأيديولوجية الإسلاموية التي لم تجن شيئا للبلاد غير القروض الربوية التي ضجت حولها في البرلمان د. سعاد الفاتح. وفي أحيان كثيرة ظل وزراء خارجية الإنقاذ، وسفراؤها، مجرد خادمين لأهداف شيخهم، ورئيسهم، دون أن يكون لهم دور في التأثير في الموقف الدبلوماسي. ولهذا صاروا يؤمرون باتخاذ مواقف دبلوماسية محددة مهما كانت رؤاهم ترى غير ذلك. بل إن الفساد طال الوزارة، وشاهدنا أن مهمة بعض السفراء لم تتجاوز التمتع بالامتيازات، والدخول في شبكات السمسرة الدولية.
ولكل هذا كان لا بد أن يتورط رأس النظام، وبعض معاونيه، في أمر المحكمة الجنائية الدولية، وهي التي حرمته من حضور اجتماع الرياض لا شئ. فضلا عن ذلك تورط كل النظام في سياسات عنجهية أدت إلى استنكار دولي واسع، وأعقبه وضع البلاد في قائمة الدول الراعية للإرهاب، وتعرضها لعقوبات اقتصادية تضرر منها الشعب أكثر من أفراد النظام. ولا ننسى أن فشل دبلوماسية البشير امتدت إلى مجالات سيادية فأدت إلى فقدان البلاد لثلث مساحتها، وكذلك استجلاب قوات اليوناميد في دارفور، وفقدانها لمساعدات، وقروض دولية استثمارية، واستقطاع أراضي البلاد، وبقائها مسرحا للاتجار بالبشر.
لقد وظف نظام الإخوان المسلمين الدبلوماسية لا لتحقيق مصالح الشعب العليا، وإنما للسيطرة عليه بالاستبداد، وقمع أي تحرك للتغيير الداخلي بالأسلحة التي تحصل عليها في علاقاته مع الصين، وإيران، وبعض البلدان الحليفة له. وأخيرا نشط أهل النظام لمخالفة نهجهم الذي استمر طويلا ضد دول في المنطقة، وأخرى دولية، وساعدهم شئ من التقارب الإقليمي وكثير من تعاونهم الاستخباراتي مع ما كانوا يسمونها دول الاستكبار لخلق المزيد من التلاعب لكسب الرأي العام المحلي، والعالمي، بفزورة الحوار الوطني. كذلك استقوى الإخوان المسلمين بإرادة إقليمية، ودولية، مخدوعة دون ان ينزلوا إلى رغبات طموحة ومتسامحة لبعض أبناء وطنهم بإجراء إصلاح جذري في السلطة يتبعه الوصول إلى حل سلمي. ولكن هيهات فالبشير، وجماعته، استمرأوا العض بالنواجذ على السلطة حتى ولو ضاعت سمعة البلد، أو أريق ماء وجههم، أو هاجر ثلاث أرباع سكانها.