نزع الحكم الذي أصدرته محكمة التحكيم الدائمة في لاهاي بشأن النزاع بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية، (فصيل التمرد السابق في الجنوب)، حول منطقة أبيي فتيل حرب جديدة خشي الكثيرون اندلاعها بسبب الخلاف على حدود المنطقة الغنية بالنفط، وإذا كانت الصيغة المتوازنة للحكم سهَّلت مهمةَ قبول الطرفين للحكم, إذ رأى فيها المراقبون «نصف نصر ونصف هزيمة» لكل طرف، إلا أن «شيطان التفاصيل» أبَى إلا أن يدُسَّ أنفَه في الأمر، حيث اندلعت في الأيام الأخيرة حرب كلاميَّة فسَّر خلالها كلُّ فريق منطوقَ الحكم وفقاً لما يحقق مصالحه، الأمر الذي يهدد بالعودة لنقطة الصفر مجدداً.
قرار محكمة لاهاي، بالنسبة لكثيرين، جاء أقرب ما يكون إلى «صفقة سياسية» جرت صياغتها في إطار قضائي، فالمحكمة منحت النفط للشمال، حيث رأت أن لجنة الخبراء التي قامت بترسيم حدود المنطقة طبقاً لاتفاق نيفاشا للسلام عام 2005 تجاوزت صلاحياتها في ما يتعلق بالحدود الشرقية والغربية، وأعادت المحكمة ترسيم تلك الحدود بما قلَّص مساحة «أبيي» من 18.5 ألف كيلو متر مربع، حسب ترسيم لجنة الخبراء، لنحو 10 آلاف كيلو متر، مما أدى إلى إخراج معظم الحقول النفطية من حدود المنطقة، لكنَّ المحكمة في المقابل أبقتْ على الحدود الشمالية والجنوبية كما وضعتها اللجنة، مما منح قبائل «دينكا نقوك»، الموالية للجبهة الشعبية مساحاتٍ خصبةً شاسعةً تقدر بنحو 90 كيلو متراً مربعاً شمال بحر العرب، كما أن الحدود الجديدة تضمُّ العديد من حقول النفط الصغيرة والمتوسطة، فضلاً عن وجود حقول أخرى مشتركة تمتدُّ على جانبي الحدود.
المَسكوتُ عَنه
هذه الصيغة التوفيقيَّة سهَّلت مهمةَ الطَّرفين في قبول قرار التحكيم، خاصةً أن المجتمع الدولي مارَس ضغوطاً مكثفةً لإجبارهما على إعلان الالتزام المسبق بنتيجة التحكيم، لكنَّ كلَّ طرفٍ سعى لتفسير النصوص الغامضة والتفاصيل المسكوت عنها في الحكم وفقاً لمصالحهِ الخاصةِ، وهو ما وضع العديد من الألغام في المنطقة الملتهبة والمُتخَمة بالصراعات أساساً، حتى إن البعض يصف «أبيي» بأنها «مفتاح السلام» أو «بوابة الحرب» في السودان، حيث تجمَع بين مكامن الثروة، (من نفط ومعادن ومَراعٍ خصبة)، وتعقيدات الجغرافيا، إذ تمتد على هيئة مثلثٍ يصل ما بين ثلاث ولايات.
أول الألغام في طريق تنفيذ الحكم جرى تفجيره من لاهاي ذاتها، حيث أعلن دينق الور كول وزير خارجية السودان، وممثل الحركة الشعبيّة أمام المحكمة، أن إخراج حقلي نفط «هغليغ» و«بامبو»، اللّذَينِ يضخَّان ثلثيْ إنتاجِ النفط السوداني من حدود أبيي، لا يعني ضمَّهما إلى ولاية جنوب كردفان التابعة لشمال السودان، مشيراً لوجود وثائق تؤكد تبعيتهما لولاية الوحدة، التابعة للجنوب، الأمر الذي ترفضه بالطبع الحكومة السودانية، بل إنها سارعت فور صدور الحكم إلى وقف الحصة التي كانت تحوِّلُها إلى حكومة الجنوب من عائدات حقل «هغليغ»، مستندةً إلى أن الحكم حَسَمَ النزاع بشأن تبعية المنطقة، وأن على الحركة الشعبية إعادة المبالغ التي تسلَّمتها تحت هذا البند.
الاستِفتَاءُ المُرتقَبُ
وإذا كان حسم هذا النزاع يتطلب الانتظار حتى تنتهي اللجنة المشتركة المكلّفة بترسيم الحدود بين الشمال والجنوب من تحديد الأراضي التابعة لكل من ولاية جنوب كردفان (الشمالية) والوحدة (الجنوبية)، مع الأخذ في الاعتبار أن مسوِّغات الجنوبيين في هذا الشأن تبدو ضعيفةً للغاية، فإن اللَّغم الذي فجَّره الرئيس السوداني عمر البشير قد يقود الطرفين مباشرة للعودة إلى لاهاي مرة أخرى، حيث شدَّد البشير على أن المشاركة في الاستفتاء المقرر في كانون الثاني 2011 ليقرر خلاله سكان «أبيي» ما إذا كانوا سينضمُّون للشمال أو الجنوب، سوف يشارك فيه كافة السكان من «بدو المسيرية» و«دينكا نقوك»، الأمر الذي رفضته الحركة الشعبية، معتبرةً أن الاستفتاء من حق «أبناء دينكا نقوك فقط»، وأن قرار المحكمة أشار إلى أن المنطقة تتبع لـ«عموديات دينكا نقوك التسعة».
وتكمُنُ خطورة الخلاف حول من يشارك في الاستفتاء في كون قصر هذا الحق على «دينكا نقوك» يحسم نتيجته سلفاً لصالح الانضمام إلى الجنوب، أما إذا تقرَّر فتح باب المشاركة أمام جميع سكان المنطقة، فإن قبيلة المسيرية، بعددها الضخم، قادرةٌ على عكس النتيجة كلية، ولذا فإنه يتوقع أن يتشبث كل طرف بموقفه، الأمر الذي يُرجِّح العودة مجدداً إلى لاهاي، إلا إذا توصَّل الطرفان لمقايضة تحسم الأمر ضمن بعض القضايا الأخرى الخلافيَّة.
المَراعي أم النِّفْطُ؟
ومن الألغام الأخرى المسكوتِ عنها في نص الحكم تلك الجزئية المتعلقة بحقِّ عرب المسيرية في التملك والإقامة ضمن المنطقة التي حدَّدتها المحكمة باعتبارها حدود «أبيي»، فالحكومة السودانية تؤكد أن الحكم لم يَمَسَّ حقوق المسيرية في الإقامة والتملك ضمن حدود أبيي، وفقاً لما هو منصوص عليه في اتفاقيَّة نيفاشا للسلام، لكن بعض الخبراء أشاروا إلى أن قرار المحكمة نصَّ على حقوق أساسيةٍ لـ «دينكا نقوك» داخل حدود أبيي تتمثل في التملُّك والإقامة ، بينما نصَّ على «حقوق ثانوية» لعرب المسيرية تقتصر على حق الرعي والإقامة.
ويتوقع أن يثير هذا التفسير غضب المسيرية، الذين يؤكدون أنهم استوطنوا المنطقة قبل 300 عام، وأن الدينكا وفدوا عليهم كضيوف، هرباً من الحروب الطاحنة مع القبائل الجنوبية الأخرى، كما أنهم يعتبرون أن المحكمة وسَّعت كثيراً من حدود أبيي، وإذا كانت المحكمة أعطت الدينكا أراضٍي خصبةً تمتدُّ لنحو تسعين كيلو متراً شمال بحر العرب، فإن هذا بالنسبة للمسيرية يعني حرمانهم من أرضٍ توارثوها عبر الأجيال، كما أنه يضع مصدر رزقهم الأساسي، المتمثِّل في رعي الماشية، تحت رحمة الدينكا، وهو ما دفع بعض قادة المسيرية للتأكد على أن «المراعي» أهم لديهم من «النفط»، بل ولوَّح البعضُ بالتصويت لصالح الانضمام للجنوب لأجل الحفاظ على المراعي.
«تَعقيدَاتُ الواقعِ»
وهناك لغمٌ آخرُ يتمثل في ترسيم الحدود التي حدَّدتها المحكمة على أرض الواقع، فهذه المهمة الصعبة قد تفجِّر الحساسيات المدفونة في الصدور, فهناك من يرفض القرار لكنه لا يريد المجاهرة بذلك، وهؤلاء قد يتَّخِذون من الإشكالات التي تنطوي عليها أي عملية لترسيم الحدود منطلقاً لتفجير الوضع برُمَّته، خاصةً أن المنطقة ليست صحراء جرداء، بل تنطوي على «جغرافيا بشرية» بالغةِ التعقيد.
وتفكيك هذه الألغام يحتاج إلى نيات صادقة وحلول مبدعة ونفس طويل، كي يتحقق ما ردَّده البعض من أن الحلَّ السَّلمي للنزاع في «أبيي» عزَّز فُرَص خيار الوحدة في استفتاء 2011، بعدما أصبحت حقول النفط التي تشكل أهميةً قصوى للطرفين متداخلة لدرجة تُصعِّب خيار الانفصال.
أما مهلة السنوات الستِّ التي نصَّت عليها اتفاقية نيفاشا قبل استفتاء سكان الجنوب في كانون الثاني 2011 على خياري الوحدة والانفصال، فإن الشطر الأكبر منها مضى دون أي تغيير يُذكر، حيث استنزف الصراع في دارفور إمكانات الخرطوم الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية، بينما كان الرهان على تدفق الأموال العربية على جنوب السودان لإحداث تنمية واسعة، بما يعزِّز حسابات الوحدة على ميول الانفصال، بمثابة سرابٍ واهمٍ.
بقلم: مصطفى عياط