الكونغولي لوبانغا يواجَه بضحيته القاصر التي تعترف بألم: سلبوني عذريتي ومشاهدة الدماء دمرت حياتي
لاهاي:غلف الصمت المكان مع اقتراب وقت معاينة حدث تاريخي. خلف الحاجز الزجاجي المضاد للرصاص تظهر القاعة الواقعة بقلب المحكمة الجنائية الدولية. على اليمين، يقف ممثلو الادعاء، وعلى اليسار، ممثلو الدفاع. ويرتدي أعضاء كلا المعسكرين الزي القانوني المميز الذي بدت ألوانه قوية على خلفية أثاث القاعة الخشبي ذي الألوان الباهتة. أما في المنتصف، فجلس توماس لوبانغا دييلو، أول شخص على الإطلاق يمثل كمتّهم أمام المحكمة الجنائية الدولية. لكن من هو هذا الشخص، وما الذي اقترفه حتى يلحق به هذا الأمر؟. أثناء جلسة عقدت في المحكمة الجنائية بلاهاي أخيراً، قبع توماس لوبانغا في هدوء وأخذ يدون ملحوظات ويميل من وقت لآخر على أحد محامية هامسا لاستشارته. إذا فصلت صورته عن المشهد العام حوله، يمكنك أن ترى في توماس لوبانغا رجل أعمال عاديا لا يختلف عن أي ممن تصادفهم في شوارع لندن أو بروكسل أو نيويورك يومياً. لا تكاد توجد قواسم مشتركة في المظهر بينه وبين متهمين دوليين آخرين أمثال الزعيم الصربي السابق رادوفان كاراديتش أو زعيم الخمير الحمر بول بوت. وكذلك، لا يحمل توماس لوبانغا أي شبه تقريبا بالنازي جوزيف مينغيلي، الذي خلفت تجاربه على الأطفال الناجين القلائل منهم مشوهين مدى الحياة.
عندما انتهت الحرب العالمية الثانية، لم يتوقع أحد قط أن تسمح البشرية بحدوث مثل هذا القدر الهائل من الدمار مجددا. وبعد خمسة عقود، أصبح الناس معتادين على المذابح الكبرى لدرجة تدفع إلى وقوفهم ساكنين أمام مقتل خمسة ملايين شخص في إطار «حرب كبرى» جديدة، هي حرب الكونغو الثانية، التي لا تزال أصداء مآسيها قائمة حتى يومنا هذا. خلال هذه المحاكمة التاريخية، لا تستمع هيئة المحكمة إلى آراء الخبراء فحسب، وإنما كذلك إلى الأطفال من ضحايا هذه الحرب ممن سيدلون بشهاداتهم بخصوص الاتهامات الموجهة إلى رئيس «اتحاد الوطنيين الكونغوليين»، حيث عمد توماس لوبانغا خلال الفترة بين سبتمبر (أيلول) 2002 وأغسطس (آب) 2003 إلى تجنيد وتدريب مئات الأطفال واستغلالهم في تنفيذ أعمال سلب واغتصاب وقتل.
ينتمي لوبانغا إلى مجموعة «هيما» العرقية من إيتوري، وهي مقاطعة تقع في الطرف الشمالي الشرقي من الكونغو التي تتسم بذات المساحة من الأرض، وحجم السكان تقريبا مثل جمهورية آيرلندا. ولد لوبانغا عام 1960، وحصل على شهادة علمية في علم النفس من جامعة كيسانغاني. تزوج لوبانغا ورزق بسبعة أبناء. بحلول أواخر التسعينات، لم تكن هناك أي مؤشرات توحي بأن هذا الرجل المعني بأسرته سيتحول في يوم من الأيام إلى أحد لوردات الحرب القساة. في الواقع، حتى بعد مرور فترة على اشتعال حرب الكونغو الثانية، كان لوبانغا لا يزال يعمل تاجرا، حيث كان يبيع الحبوب في سوق بونيا، عاصمة إيتوري. إلا أن الحرب دفعت لوبانغا إلى طريق السلطة والشر، ولم يكن ذلك لسعيه وراء تحقيق أمجاد عسكرية شخصية بقدر ما جاء انطلاقاً من إيمانه القوي بوجهة نظر عرقية تجاه الحياة السياسية. وسيطرت عليه فكرة أن «هيما» كمجموعة يتحتم عليها القضاء على جميع الأخطار أمامها وإلا ستتعرض للسحق. منذ أواخر التسعينات، تحولت إيتوري إلى مركز لأعمال العنف مع اندلاع معارك بين الفرق المختلفة المتورطة في الحرب الأوسع سعيا للسيطرة على الثروات المعدنية. وأثناء الحرب، جرى استغلال عقود طويلة من مشاعر الريبة والتوجس بين المجموعات العرقية في إيتوري، خاصة «هيما» و«ليندو»، من أجل تحقيق غايات سياسية، الأمر الذي تمخض عن عواقب كارثية. في يونيو (حزيران) 2000، توجه المئات من جنود «هيما» من أعضاء حركة «التجمع الكونغولي من أجل الديمقراطية»، التي كانت مسيطرة آنذاك على إيتوري، إلى أوغندا لتلقي تدريب عسكري لمدة شهرين. ولدى عودتهم، أصبح التاجر لوبانغا المتحدث الرسمي باسمهم. واضح أن الجنود لم يأبهوا بافتقاره أي خبرة سياسية، خاصة أنه كان متعلما ومثقفا وبات يتحدث باسم نصف أبناء جماعته العرقية. وبذلك، شهدت تلك الفترة غرس بذور «اتحاد الوطنيين الكونغوليين». وفي يناير (كانون الثاني) 2001، انضم لوبانغا إلى «التجمع الكونغولي من أجل الديمقراطية» كمفوض لشؤون الشباب والرياضة. ولاحقا، عندما تولى منصب مفوض شؤون الدفاع، عمد إلى تجنيد مزيد من القوات من أبناء عرق «هيما». وبسبب منعه من قبل «التجمع» من المشاركة في إبرام اتفاق سلام في أبريل (نيسان) 2002 في صن سيتي بجنوب أفريقيا كان يرمي لإنهاء الحرب في الكونغو، انفصل لوبانغا عن الحركة ورحل معه جنوده من «هيما». وبذلك، انقلب لوبانغا على قادته السابقين. وفي أغسطس (آب) 2002، طارد جنوده قوات «التجمع الكونغولي من أجل الديمقراطية» وأجبروهم على الرحيل من بونيا، وشنوا هجمات ضد أبناء عرق «ليندو» وأي شخص اعتبروه «جاجامبو» (أجنبياً). ومن هناك، منيت البلاد بحالة من الفوضى الكاملة، ذلك أن الأمر لم يقتصر على اشتعال القتال بين «اتحاد الوطنيين الكونغوليين» والميليشيات العرقية المنافسة لها، وإنما امتد إلى قتل المدنيين من أبناء الجماعات العرقية المتناحرة بوحشية بالغة. ومما زاد الوضع سوءاً، استغلال الأطراف كافة للجنود الأطفال. وعلى شاشة كبيرة داخل القاعة، عرضت صورة لأطفال في زي رسمي عسكري يصفقون ويغنون، بينما يقف في المنتصف الرجل الماثل الآن أمام المحكمة. في الصورة بدا لوبانغا أكثر نحافة. وقد جلس المتهم في قاعة المحكمة ينظر إلى الصورة من دون أن تبدو عليه أي ردود أفعال. وارتفع صوت نائب المدعي، متسائلا: «أيها الشاهد، هل تعلم هذا الشخص المعروضة صورته على الشاشة؟». كان الشاهد رقم 10 عبارة عن فتاة صغيرة لم تكد تفارق سن المراهقة حتى الآن. وأجابت بثقة: «إنه توماس لوبانغا». وأردفت قائلة: «كانت هناك أغنية عندما كنا نشدو بها، كان البعض منا يبكي، مثلي، لأنني كنت مدركة أنه لم يعد لدي أسرة وأنني أصبحت وحيدة تماما. كنت عاجزة عن التعبير عن الحزن الذي بداخلي، ولم أستطع الاعتراف بأني خائفة».
بحلول سبتمبر 2002، عين توماس لوبانغا رئيسا لـ«اتحاد الوطنيين الكونغوليين». ومنذ ذلك الحين، لم يعد يتقبل أي معارضة. في الواقع، لم يعد رئيسا فحسب، وإنما أيضا «ريس»، وهو لفظ يشير إلى زعيم أشبه بالملك المتوج الذي يحظى بسلطة دائمة ومقدسة من جانب المجموعة التي يحكمها. وتحول لوبانغا إلى حامي عرق «هيما» في إطار حرب مصيرية تستلزم مشاركة كل رجل وامرأة وطفل من أبناء العرق. وبالفعل، جرى إغواء الأطفال واختطافهم، بل وأحيانا التنازل عنهم من قبل ذويهم، من أجل المشاركة في تدريبات عسكرية. تراوحت أعمار الكثير من الأطفال بين 10 و15 عاما. إلا أن البعض أشاروا إلى أن بعض الأطفال كانوا في الخامسة من أعمارهم. لكن لماذا؟ ما الذي تجنيه آلة الحرب من وراء امتصاص دماء الأطفال؟ الملاحظ أن الميليشيات بمختلف أرجاء العالم صاغت حساباتها على نحو غريب خلال السنوات الأخيرة، حيث رأت أن الأطفال يمكن استغلالهم من دون دفع أجر لهم، وأنهم بطبيعتهم مخلصون ومطيعون ومن غير المحتمل أن يتمردوا، علاوة على إبدائهم خوفاً أقل في المعارك لعجزهم عن تقدير المخاطر والعواقب بصورة مناسبة. وإذا كن إناثاً، يمكن استغلالهم أيضا كخادمات وإماء للإشباع الجنسي لأفراد الميليشيا.
اعترفت الشاهدة رقم 10 أمام المحكمة قائلة: «كنت عذراء قبل الانضمام إلى «اتحاد الوطنيين الكونغوليين»، فقد سلبوني عذريتي. وشاهدت دماء دمرت حياتي برمتها. أبكي كل يوم لأنه لا أم ولا أب لدي. وحدتي تؤلمني، وعندما أفكر بهذا الأمر تراودني الرغبة في قتل نفسي». أمام المحكمة، بدت الشاهدة طفلة سلبت طفولتها وبراءتها وإمكاناتها. ومن جهتها، أوضحت إليزابيث شاور، وهي طبيبة نفسية ورئيسة منظمة غير حكومية تعمل على إعادة تأهيل الضحايا في أعقاب تعرضهم لصدمات كبرى، أن «أي تجربة يكون الجاني فيها قريبا فعليا (من الضحية) وبيده سكين أو مسدس ويغتصب ضحيته أو يهاجمها، فإن مثل هذه التجارب من المحتمل أن تتولد عنها اضطرابات نفسية». وأضافت: «الذكريات الصادمة أو المهمة عاطفيا تدفن في الذاكرة، أليس كذلك؟ إن الصدمة لا تخمد، ولا تتلاشى. من الممكن أن يصاب المرء بصدمة في الـ11 من عمره ويموت مصابا بأعراض اضطرابات ما بعد الصدمة العصبية وهو في الـ70».
وإذا كان «اتحاد الوطنيين الكونغوليين» قد استغل الأطفال كجنود، فإن هذا الأمر ليس جديداً، إذ يقحم، دوماً، مئات الآلاف من الأطفال في صراعات مسلحة بمختلف أرجاء العالم. إلا أنه بغض النظر عن نتيجة محاكمة توماس لوبانغا، فإن الرسالة التي تبعث بها هذه المحاكمة جديدة من نوعها، مفادها: استغل أطفال كجنود، حتى وإن كان في حرب غير مشروعة كتلك التي منيت بها الكونغو، وستفقد حريتك في يوم من الأيام. لذا، تحمل هذه المحاكمة أهمية في أعين كل من يقدرون الأطفال ومستقبل عالمنا.
«الشرق الأوسط»