خالد فضل
كان صديقنا الصحفي الكبير نيال بول ؛ صاحب ورئيس تحرير صحيفة سيتيزن الإنجليزية التي كانت تصدر في الخرطوم , قُبيل انشطار السودان إلى دولتين فاشلتين , يداعبني كلما إلتقينا في محفل إعلامي يقول : يا صاحبي خالد إنتو ناس ديمقراطية وحريات عامة , أنحنا مطالبنا دون ذلك بكثير , نحن ندعو فقط لبقاء حياتنا ذاتها . كانت عبارته قاسية ومحبطة لكنها في ذات الوقت صادقة ومعبّرة عن واقع حقيقي . لقد كانت الدولة السودانية متوجهة بكلياتها للحرب , هذا يعني أنّ أولوية السلطة لم تك حياة الناس , بل قتل جزء من الشعب بوساطة جزء آخر تحت مسميات مختلفة تقود لنفس النتيجة , حرب ضد التمرد مثلا , ضرب الخونة والمارقين على سلطان الدولة في رواية أخرى , حسم العملاء وربائب الاستعمار تارة , بسط الأمن وتأمين المواطنين , ردع أعداء البلاد , ثمّ جاءت الفرية الكبرى (جهاد في سبيل الله), وإقامة لدولة الإسلام ! استخدمت في عمليات القتل والترويع المستمرة لمجموعات من الشعب السوداني كل الآليات , القوات العسكرية الرسمية بمختلف أفرعها , المليشيات القبلية , المليشيات العقائدية , تلاميذ المدارس في الخدمة الإلزامية وضحايا الكشات من الشباب , طلبة الجامعات إلخ إلخ , وتبع ذلك حملات إعلامية ضخمة وحشود من الأباطيل والأكاذيب ؛ تمثل عند كاتب صحفي مثل إسحق أحمد فضل الله ضربا من ضروب الجهاد الإسلامي كذلك !! لقد ظلّت أجواء ومناخات الحرب ملازمة لفترة حكم الإسلاميين السودانيين لثلاثة عقود وما يزالون يطمعون في المزيد .
في أجواء ومناخات أكتوبر 1964م , كانت حرب الجنوب أحد أبرز موضوعات الثورة الشعبية ضد حكومة المرحوم الفريق إبراهيم عبود , ولعل (الكيزان) كانوا لزمن قريب يتبجحون بأنّ حديث د. الترابي _ يرحمه الله _ في ندوة جامعة الخرطوم الشهيرة قد ألهب الثورة وملأ الشوارع بالمتظاهرين , والثورة انطلقت .. كما غنى أبواللمين , الواقعة كحدث تاريخي متواترة وموثقة , وحديث الترابي في تلك الندوة ورأيه مشهور دون شك , فقط تبقى المفارقة التي تبطل الإدعاء أنّ ذات القائد الثوري الإسلامي وأستاذ القانون الدستوري في الجامعة , وخريج جامعة السوربون العريقة , قد عاد بعد 25سنة فقط على ثورة اكتوبر وحديثه في أثناء اشتعالها , عاد لينقض غزله بيده , فقد كان رأي الترابي أنّ أزمة الجنوب في الخرطوم وليس هناك في الأحراش , وأنّ نظام الحكم العسكري ووأد الديمقراطية وسحق الحريات واتباع منهج الحسم العسكري لمطالب الجنوبيين هي الأزمة والكارثة لذلك الحل في سقوط طغمة الحكم العسكري وعودة الديمقراطية وبسط الحريات العامة ؛ لحظتها يتحقق الحل العادل لقضية الحرب في الجنوب . وبالطبع لا نحتاج إلى إعادة ما هو معروف من تنكُّب الترابي لطريق الحل السلمي العادل لقضية الجنوب , لدرجة جعلت صديقنا نيال يعتبر المناداة بالحريات والديمقراطية ترفا نخبويا . ثمّ جاء زمان غادر فيه الجنوب دولة السودان تاركا الجمل بما حمل .
لقد كانت مسألة الحريات وما يترتّب على وأدها من مآسي وطنية جسيمة هي المحرّك والباعث الرئيس لثورة أكتوبر , لم تك مسألة البقاء على قيد الحياة من مطالب الثوار يومذاك , فقد ارتفعت حاجات الناس من مرحلة الحاجات الأساسية إلى درجات أرفع ؛ حسب سلّم الحاجات البشرية الذي رسمه عالم النفس الشهير ابراهام ماسلو , لذلك تعتبر ثورة أكتوبر ثورة متقدمة فكريا وسياسيا وتنم عن وعي وتقدم كبيرين سادا وسط الشعب السوداني في حقبة الستينات من القرن الماضي , وبمقارنة ما يحدث الآن نلمس بوضوح شديد مدى التقهقر حد الوصول للحضيض في كل أوجه حياة الشعب , فقط خذ العملة الوطنية نموذجا , كان سعر صرف الجنيه الواحد يعادل 3 دولارات أمريكية يعني 100جنيه سوداني تساوي 300دولار , الآن في وسط السوق العربي وفي شارع الجامعة وعند مقرن النيلين حيث مقر البنك المركزي سعر 300دولار أمريكي يساوي 14250جنيها , 14مليون جنيه هي قيمة 300دولار . هل تقدّمنا ؟ وحرب الجنوب الجديد ما تزال حاضرة ليس في أرض دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق فحسب , لكنها ممتدة بمأساة إنسانية فادحة بأكثر من 300ألف قتيل , و3ملايين مشرّد بين نزوح ولجؤ , وبآلاف الضحايا من النساء المغتصبات والأرامل والمطلقات , بملايين الأطفال الضائعين , ويكفي فداحة الأمر من ناحية سياسية وقانونية بلوغه حد توجيه تهم الإبادة والتطهير العرقي وجرائم الحرب من جانب قضاة المحكمة الجنائية الدولية لرئيس النظام وثلة من معاونيه , وباتت رحلات الرئيس إلى خارج البلاد محفوفة بقومة النفس وتدابير معقّدة من جانب دول واستخبارات دولية وإقليمية , ثمّ الطامة الكبرى تتمثل في ارتداد فظيع من جانب الشعب إلى مكونات أولية تمثلها القبيلة والإثنية والجهة واللون والمعتقد الروحي , وفي غمرة ذلك تمّت أكبر عملية تصفية ونهب منظم لثروات البلاد , وبمزاعم الإستثمار أصبحت كثير من مساحات الوطن ضياع للأجانب بحق التملك وزعم الإستثمار , وتمّ هدم معمار الدولة ونظمها ولوائح خدمتها العامة المدنية والعسكرية حتى بات الترقي في الجيش وتدبيج الكتوف بالرتب أمرا خاصا بالخدمات التي يؤديها الفرد لحكم الفرد ولو لم يعرف مقر الكلية الحربية ناهيك عن المرور عبرها ! ومثل ذلك في وظائف الخدمة المدنية بشرطها البائس _الولاء للتنظيم الإسلامي_ فكان أن سمنت القطط وماءت بالعمارات والبنوك والمزارع والذهب والأرصدة في الخارج والشركات وحتى أكشاك موقف جاكسون , وظلّ الخبز لا الحرية هو المطلب العزيزلعامة الشعب , يقف في صفوفه البروف في الجامعة وتفوته المحاضرات , والتلميذ في الأساس يفوته طابور الصباح . وأصبحت صفوف الوقود من علامات تقوى الله وتقوية الإيمان ومحاربة الفقر من محاربة الله كما يهرّف بذلك قادة وعلماء اسلام السودان في هذا الزمان ! فيما كانت مطالب القرشي ورفاقه في أكتوبر 1964 _ حُرية حرية حرية . فتأمّل !