بلغت الأزمة السياسية في السودان ذروتها أمس عقب حظر السلطات تظاهرة للمعارضة أمام البرلمان احتجاجاً على «تباطؤ» حزب المؤتمر الوطني الحاكم في إقرار قوانين مرتبطة بالحريات والسلام والتحول الديموقراطي. واستخدمت الشرطة الغاز المسيل للدموع والهروات لتفريق المتظاهرين، واعتقلت نحو 70 من قيادات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» من بينهم وزراء وبرلمانيون وعناصر في تحالف المعارضة، قبل أن يتدخل الرئيس عمر البشير ويأمر بإطلاقهم. وقبل الإفراج عن هؤلاء رد محتجون غاضبون على توقيفهم بإحراق مقرين تابعين لحزب المؤتمر الوطني في إقليم الجنوب الذي تحكمه «الحركة الشعبية».
وعلى رغم إعلان حكومة ولاية الخرطوم أمس عطلة رسمية لمنع المواطنين من مغادرة منازلهم واعتبار الشرطة تظاهرة المعارضة غير شرعية وتحذيرها من يشاركون فيها، إلا أن ذلك لم يمنع المئات من النزول إلى الشوارع في مدينتي الخرطوم وأم درمان وكانوا يرفعون لافتات تنتقد الحزب الحاكم ويهتفون مطالبين بالحريات والسلام. غير أن الشرطة وضعت حواجز لمنع المتظاهرين من الوصول إلى البرلمان، وأخضعت حافلات الركاب إلى عمليات تفتيش، ونشرت الآلاف في مدن الخرطوم الثلاث التي تحولت إلى مدن أشباح حيث قل المارة في الطرقات وتجنب قطاع من المواطنين الخروج من منازلهم خوفاً من وقوع صدامات بين المعارضة وقوات الشرطة والأمن التي انتتشرت بكثافة.
وخرج المتظاهرون في الخرطوم وأم درمان في شكل مجموعات صغيرة، وتحوّلت مقار الأحزاب المعارضة و«الحركة الشعبية» إلى مواقع للتجمعات. كما خرجت تظاهرات مماثلة في مدينتي الأبيض عاصمة ولاية شمال كردفان والحصاحيصا في ولاية الجزيرة. وفي جنوب البلاد تظاهر المئات في جوبا عاصمة إقليم الجنوب، وواو عاصمة ولاية بحر الغزال، ورمبيك عاصمة ولاية البحيرات. وأحرق متظاهرون غاضبون مقري حزب المؤتمر الوطني الحاكم في واو ورمبيك حيث أقفل «الجيش الشعبي لتحرير السودان» (الذي يسيطر على إقليم الجنوب) مطاراً في منطقة قريبة من حقل فلج للنفط تستخدمه شركات النفط العاملة هناك.
وعلمت «الحياة» أن الرئيس عمر البشير تدخل لتهدئة الأوضاع وأجرى اتصالاً هاتفياً مع نائبه رئيس حكومة الجنوب سلفاكير ميارديت الموجود في جوبا، وأبلغه أنه أمر بالإفراج عن قيادات ومسؤولي «الحركة الشعبية» التي يتزعمها سلفاكير والذين اعتُقلوا في الخرطوم، وطلب منه اللجوء إلى الحوار لتسوية القضايا العالقة.
كما أجرى الحزب الحاكم اتصالات مع نائب رئيس «الحركة الشعبية» مالك عقار وكلّف حاكم ولاية جنوب كردفان أحمد هارون إدارة وساطة سياسية واحتواء الأزمة. واستدعت وزارة الخارجية السودانية رؤساء البعثات الديبلوماسية المعتمدة في الخرطوم وشرحت لهم الأوضاع وأسباب حظر السلطات تظاهرة المعارضة. وقال وزير الدولة للإعلام كمال عبيد إن الساعات المقبلة ستشهد اتفاقاً على خطوات للتهدئة.
وأفرجت الشرطة عصراً عن الأمين العام لـ «الحركة الشعبية» باقان أموم ونائبه ياسر عرمان. وقال باقان للصحافيين عقب إطلاقه إنه أفرج عنهم بكفالة شخصية، وحمل في شدة على حزب المؤتمر الوطني الحاكم واتهمه بـ «سرقة السلطة» عبر انقلاب عسكري، كما اتهمه بالتراجع عن اتفاق السلام والحريات، وهدد بأنهم سيواصلون «نضالاً سلمياً» من أجل حمل الحكومة على احترام السلام وإقرار الحريات وتمرير القوانين العالقة. ووعد بالعمل من أجل منع السودان من الانهيار وكفالة الحريات والديموقراطية في البلاد، مشيراً إلى أن الحزب الحاكم أجرى معهم اتصالات.
وكان الناطق باسم «الحركة الشعبية لتحرير السودان» ين ماثيو قال في مؤتمر صحافي إن قوات الشرطة اعتقلت اكثر من 150 من تحالف المعارضة أبرزهم باقان أموم، وياسر عرمان ووزير الدولة للداخلية عباس جمعة، ووزير الدولة للعدل يك مامير، ووزير الحكم المحلي في ولاية الخرطوم ميان دوت وول، والصديق نجل زعيم حزب المؤتمر الشعبي المعارض حسن الترابي، والمسؤول السياسي في المؤتمر الشعبي كمال عمر، ورئيس حزب المؤتمر الوطني المعارض ابراهيم الشيخ، إلى جانب ناشطين في مجال حقوق الإنسان وبعض الصحافيين لحظة وصولهم أمام مقر البرلمان بغرض تسليم مذكرة عن مطالب المعارضة صباح أمس.
واعتبر ياسر عرمان ما حدث «مسرحية مضحكة وسخيفة» من حزب المؤتمر الوطني الحاكم، وقال «لم تحدث أي اشتباكات مع رجال الأمن حتى تحدث اعتقالات. نحن كنا متوجهين في شكل سلمي كنواب في البرلمان إلى مقر البرلمان لتسليم قائمة من الطلبات، غير أننا فوجئنا باعتداء رجال الأمن علينا». وأضاف أن المواطنين سيستمرون في تظاهرات سلمية في كل مدن السودان للاحتجاج ضد الحزب الحاكم والمطالبة بتطبيق اتفاق السلام بين شمال البلاد وجنوبها وإقرار الحريات والقوانين التي تكفل انتخابات حرة ونزيهة.
واتهم السلطة بالتهرب من التزاماتها تجاه الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقررة في نيسان (ابريل) المقبل واستفتاء حق تقرير مصير للجنوب وتغيير قانون الأمن الوطني.
وقال الناطق باسم قوات الشرطة الفريق محمد عبدالمجيد الطيب إن قوى تحالف المعارضة لم تحصل على التصديق للتظاهرة من سلطات ولاية الخرطوم، واصفاً التظاهرة بأنها «تجمع غير مشروع» وأن كل من يشارك فيها يخالف القانون الجنائي.
لكن زعيم حزب الأمة المعارض الصادق المهدي انتقد في بيان السلطات وقال إنها «تصرّفت باستعلاء وانفراد وعدوانية واعتبرت التجمع السلمي عدواً يواجه بالقمع والمنع والاعتقال والضرب واستعراض القوى». وأضاف: «هذه تصرفات غير مسؤولة أدينها وأطالب السلطات المعنية بالاعتذار عن هذا السلوك الخاطئ والمستخف بالعواقب الجسيمة على أمن البلاد القومي وأطالب بإطلاق كل المعتقلين فوراً وأطالب باجتماع قمة سياسية جامعة للاتفاق على إدارة دفة البلاد بالصورة التي تحقق السلام العادل الشامل والتحول الديموقراطي الكامل».
كما حمل الترابي في شدة على الحزب الحاكم وقال إن ما جرى يشكك في صدقيته نحو الحريات والديموقراطية وإجراء انتخابات حرة ونزيهة، موضحاً أن الحزب الحاكم أرسل وسطاء إلى المعارضة عقب التظاهرة. وعقد المهدي والترابي وزعيم الحزب الشيوعي محمد ابراهيم نقد وقيادات في «الحركة الشعبية» اجتماعاً ليل أمس لمناقشة تطورات الأوضاع والاتفاق على خطوات في شأن مستقبل عمل التحالف خلال الأيام المقبلة.
واستأنف البرلمان نشاطه أمس وأودع مشروع قانون النقابات لعام 2009 وهو من ضمن القوانين المتعلقة بالتحول الديموقراطي التي تطالب المعارضة بإقرارها مع عشرة قوانين أخرى أبرزها قانون الأمن الوطني والاستفتاء على تقرير مصير الجنوب والمشورة الشعبية لمواطني ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق واستفتاء مواطني منطقة أبيي على الانضمام إلى الجنوب أو البقاء على وضعها الحالي.
وقالت مذكرة المعارضة التي مُنعت من تسليمها إلى البرلمان، إنه مع اقتراب انقضاء الفترة الانتقالية المحددة لإنجاز بنود اتفاق السلام الشامل واتفاقات السلام الأخرى فإن حزب المؤتمر الوطني يستمر قابضاً على مفاصل السلطة ويتنصل من الوفاء باستحقاقات السلام واستدامته، ما أدّى إلى استحكام الأزمة الوطنية ودفعت بالوطن إلى حافة هاوية بعد انتفاء عوامل الوحدة الوطنية الطوعية الجاذبة.
وذكرت المذكرة أن سياسات الحزب الحاكم أدت إلى استمرار الحرب في دارفور وباتت نذر الحرب الأهلية تهدد استقرار الأقاليم الأخرى بتزايد «مخططات المؤتمر الوطني بإشعال النزاعات القبلية والجهوية»، فضلاً عن عرقلة تحقيق التحول الديموقراطي لاستغلال الحزب غالبيته الميكانيكية في البرلمان و«إصراره على بقاء التشريعات والقوانين الشمولية أو إبدالها بالأسوأ منها». وقالت إن الحزب «يعمد إلى إجراء انتخابات مشوهة لإضفاء مشروعية زائفة على حكم شمولي جديد». وتابعت: «يجرى كل هذا في ظل سياسات العسف والتشريد في ظل استشراء الفساد وتفاقم الأزمة الاقتصادية وغلاء المعيشة التي يرزح تحتها شعبنا، ما أدى إلى تضخم قاعدة الفقر».
وطالبت المعارضة بإقرار القوانين المطلوبة لتطبيق اتفاقات السلام وإنجاز مستحقات التحول الديموقراطي وأبرزها قوانين الأمن الوطني، والاستفتاء لشعبي جنوب السودان ومنطقة ابيي، والمشورة الشعبية لشعبي جنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان، والنقابات، والقانون الجنائي وإجراءاته، وتعديل التشريعات الأخرى التي لا تتواءم مع اتفاق السلام والدستور الانتقالي.
كما طالبت بإصدار التشريعات والقرارات التي من شأنها انهاء الحرب وإرساء السلام العادل في دارفور مع التأكيد على ضرورة المساءلة والمحاسبة من دون استثناء لأحد عن كل الجرائم التي ارتكبت في حق المواطن في الإقليم، والالتزام بإجراء انتخابات حرة نزيهة وشفافة بعد إعادة النظر في الإحصاء السكاني، مع ضمان قومية الأجهزة الإعلامية وحيادها، واتخاذ القرارت الفورية لمحاربة الفساد والتقليل من حدة الغلاء والفقر، وإعادة المفصولين من الخدمة المدنية ورد المظالم، إضافة إلى إصلاح المؤسسات الاقتصادية وإعادة اعمار المناطق المتأثرة بالحرب ومعالجة اوضاع اللاجئين والنازحين.
وأضافت المذكرة إن «قوى الإجماع الوطني» تؤكد عزمها وإصرارها على ضرورة حل كل القضايا الوطنية للخروج بالبلاد من الأزمة الخانقة، وأعلنت استعدادها لوضع كل امكاناتها لتحقيق السلام العادل والتحول الديموقراطي بما يحقق وحدة طوعية للسودان ويمنع من وقوعه في هاوية التمزق والتفتت.
الخرطوم – النور أحمد النور
الحياة